لا أُلمِّح لتِلك الثمرةِ التي سَقَطت قبلَ نحوِ 4 قرونٍ لتُلهم السير إسحاق نيوتن بصياغةِ نظريتهِ حول الجاذبية، وإنما لشركةٍ تسببتْ بإحراجنا كدولٍ عربيةٍ غالبيةُ اقتصاداتها تقِل عن موجوداتِ تِلك المؤسسةِ الأميركيةِ "أبل".
فهل يُعقل أن يفوقَ حجمَ أصول شركةٍ تنتج الهواتف الذكية مقدار اقتصاد دولةٍ عربيةٍ ذاتُ وزن بالغٍ كمصر يبلغُ ناتجها الإجمالي 330 مليار دولار؟ وكيف لشركةٍ -تمتلك 116 ألف موظف في الولايات المتحدةِ وخارجها- أن توازي إمكاناتَ دولةٍ رئيسة بالعالمين العربي والإسلامي يقترب عدد ساكنتها من 100 مليون نسمة؟، وكيف للأولى أن تحقق أرباحَ سنوية تحوم حول مستوى 30 مليار دولارٍ في وقت تبحثُ فيه القاهرة عن قروضٍ داخليةٍ وأخرى خارجيةٍ من بينها 12 مليار دولارٍ من قبل صندوق النقد الدولي.
يُقدِّر البعض المسافة الزمانية والحضارية التي تفصلنا عن غيرنا بنحو 3 قرون، أي منذ انبعاثِ الثورة الصناعية في انجلترا، لكنني أراها ضعفَ ذلك، إذ أننا لم ندخُل تلك الحقبة أساساً. |
وكيف لدولةٍ شرّفها القرآن الكريم بذِكرِ اسمها في سورةِ يوسف مُقترناً بشهرتها بزراعة القمح بأن تُصبح أكبر مستوردٍ بالعالم له، وكيفَ أضحت العراق -التي كانت أرضها أهم موردٍ للخراج المتأتي من الزراعة خلال العهد العباسي- أكبر مشترٍ للسكر؟، رغم مقدرَتِها على تلبيةِ حاجتها من المُنتج عبر زراعتهِ في منطقةِ الأهوار.
تساؤلات تدورُ بالأذهان على الدوام، فما الذي جعلَ أقدم حضارتين شهدتهما البشرية تكفلتا بمنحِها علومَ الفلك والطب والهندسة والقانون، أن تتحولا لدولتينِ غير قادرتينِ على الوفاءِ بالمتطلبات الأساسيةِ لمواطنيها، هذا فضلاً عن تقديمِ أي إضافة علميةٍ أو فكريةٍ أو إنتاجيةٍ للعالم؟، وهذا الأمر ينسحب على بقيةُ دولنا التي تحوزُ امتداداً وعمقاً تاريخياً أقل منهما.
قد يقولُ قائلٌ إنك تغافلتَ عن تناول الممارسات الكولونيالية ومساعي الدول الكبرى لإجهاضِ أي نهضة علميةٍ أو فكريةٍ قد تشهدُها منطقة ابتليت بقادة تعهدوا بملء فراغ خلَّفه المستعمر لينوبوا عنه مهمة إدارة تركته، الأمر الذي بددَ احتمال ظهورَ أي تطورٍ صناعيٍ أو زراعيٍ وسواهما، ورغم صحة ذلك وإدراكه من قبل غالبيتنا، غير أن شواهدَ كثيرة تفيد بعدم اقتصار الأمر على ذلك، فحالتنا كانت أفضلُ كثيراً من واقعِ اليابان وألمانيا اللتان انبعثتا من رماد الحرب العالمية الثانية لتشقا طريقهما في ظرف سبع عقود نحو مضامير العلم والفكر والإنتاجية التي لا يُمكن مضاهاتها، كما أن تجربتنا الاستعمارية لم تكُن أقلَ دمويةً وخراباً من تلك التي شهدتها الهند التي تُنافس راهناً 3 دول عظمى في التواجدِ على سطحِ المريخِ.
أين المشكلة إذاً، لماذا لم نلحق بركبِ الغرب والشرق؟ وما سرُ تفوقهم وتزايد الفجوة الحضارية التي تفصِلنا عنهم؟ وهل للأمرِ جذوراً تاريخية؟ وهل هم متفوقون أم نحن المتأخرين؟
نتناول الأمرَ ليسَ من قبيلِ الانبهار بمنجزات ما انفكت الحضارة الغربية تقديمها لنفسها ولنا وللآخرين، إذ أن الأمر أصبح مألوفاً في الشرقِ أيضاً، في ثقافاتٍ تصالحت مع العلم والمعرفة وأيقنت بأنهما بالإضافة للمصالح المشتركة تمثلُ سبيلها في الخروج من عصور وسيطة انتهت باضمحلال مكانة العلم والفكر في بلادنا مقابلَ صعود نجمهما في أوروبا.
يُقدِّر البعض المسافة الزمانية والحضارية التي تفصلنا عن غيرنا بنحو 3 قرون، أي منذ انبعاثِ الثورة الصناعية في انجلترا، لكنني أراها ضعفَ ذلك، إذ أننا لم ندخُل تلك الحقبة أساساً، كما أن التطورَ الذي أعقبها في أوروبا أخذَ شكل متتالية متسارعة تكفّلت بتعميق الهوة، ففي الوقت الذي يتحدثُ فيه الشرق والغرب اليومَ عن ثورة صناعية رابعة، فإننا نجدُ أنفسنا في متاهة قد تسعفنا لتلمُّسِ طريق تلك الأولى!
ليس هذا هو التفسير الوحيد الذي يبررُ سرَ تأخُرنا وتقدمِهم، فقد تزامن سقوط بغداد -المهتمة بالعلم والفكر والفلسفة- على أيدي المغول 1258 ميلادية، مع ظهور تيارات فقهية طوّقت أعناقنا وكبّلت أيادينا وحجّرت عقولنا باجتهادات حطّت بعضها من قدر تلك العلوم وفسقت وبدّعت كثيراً من أصحابِها ، مُحتكرةً دور تقييم الأشخاصِ والأفكارِ وحتى العلومِ، ليُقدِم أحد أعلامها مثلاً على إنكار التعامل بالكيمياء والتقليل من شأنِ رائدها التوحيدي، وهو أمرٌ لو آمن به المرحوم أحمد زويل لكان من بين عامةِ الناسِ وأقلُّهم شأناً.
وكما أن عصر انحطاط أوروبا حمل في طياته محاكمةَ الكنيسةِ لغاليليو غاليلي بشأنِ نظريته حول مركزيةِ الشمس، فإن لدينا شواهدَ كثيرة تؤكد حرصَنا على تقمُّص دور القارة العجوز في عصورِها الظلماء، لأنَ بين ظهرانينا من يسلِّم ويشدد القول لتلاميذه بثبات الأرضِ وعدم تحرُكِها!
ما حكمت به بعض التيارات الفقهية على التوحيدي قَضت به أيضاً على غيرهِ كما قَضت على مكانة العقلِ في التفكيرِ والتدبّر، على أن تلاميذها المعاصرونَ لا يجدون غضاضة في السعي للتعافي عبر اللجوءِ لأدويةٍ غربيةٍ مُنتَجةٌ من مستحضراتٍ كيماويةٍ كان لإبن حيان قصبُ السبقِ في اكتشاف ماهيّتها.
ما لم تعد للعلمِ والفكرِ مكانتهما في بلادِنا، فإن الآخرينَ لن ينتظرونا كثيراً في مجراهم الحضاري، فهم يُمتلكون تفاحاً لا حصر له، فبالإضافة إلى "أبل" فإن هناك كثيرٌ من نظيراتِها. |
سعت هذه المدارس لأن تصيبنا بالشلل الفكري وإفقادِنا مَلكةُ التعاطي مع مستجداتِ عصرنا وأفكاره، فكان لها ما أرادت، إذ لم يَزل منطِقُها يَطبعُ عقولنا وسُلوكنا إلى اليوم، ما يذكَّر بمقولة لإمام دُعاةِ القرن العشرين مُحمد الغزالي -رحمه الله- حين وصفِ أصحابِ تِلك التياراتِ بِقولِه إنهم "أضاعوا أمتهم، وخلفوا أجيالاً من بعدِهم لا هي في دُنيا ولا هي في دين".
وفي ضوء ما تقدم، أرى أن الفجوة العلمية والفكرية التي تفصلنا عن الآخر سِوانا تصل إلى نحو 600 عاماً تخللها قرون حكم الخلافة العثمانية التي لم تعطِ العِلمَ والفِكرَ أولويةً تضاهي مسعاها لتنفيذ الفتوحات وجبايةِ الأموالِ لضمانِ ازدهار الأستانة حتى لو كانَ الثمنُ مشاركةَ صغارِ المزارعين غِلالهم المتواضعة.
لم يكن لنا دور في إثباتِ أو دحضِ نظريةِ سقوطِ التفاحةِ أو مواجهةِ التطورِ الذي تقودهُ شركة تحمل شعار تلك الثمرة، ولم نفلحْ أيضاً في مواجهةِ نظريةِ "أصل الأنواع" لشارلز داروين من الناحيةِ الموضوعيةِ، إذ اقتصر الأمر على شتمٍ ونكرانٍ لها ولصاحِبها من قِبَلِ من ليس له دِرايةٍ ودراسةٍ بتفاصيلِ تلك النظريةِ التي ينبغي معالجةُ تداعياتها الواسعة على شبابِنا بسلاحِ علمٍ تم إحالةُ أحقية التصرفِ به إلى فقهاء لا عُلماء مختصون.
ما لم تعد للعلمِ والفكرِ مكانتهما في بلادِنا، بالتوازي مع المثابرة على إزالة تشابُكهما مع الفقه، فإن الآخرينَ لن ينتظرونا كثيراً في مسارِهم ومجراهم الحضاري، فهم يُمتلكون تفاحاً لا حصر له، فبالإضافة إلى "أبل" فإن هناك كثيرٌ من نظيراتِها التي تتمتع بقدراتِها وبإمكانات "مايكروسوفت" و"إكسون موبيل" و"فايزر" و"لوكهيد مارتن" و"جنرال إليكتريك" التي توازي كل منها حجم اقتصاد دولةٍ عربيةٍ بحيالها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.