شعار قسم مدونات

في الليلة الظلماء.. يفتقد البدر

blogs - china
يصادف هذا الأسبوع الذكرى 41 على رحيل شو إن لاي أول رئيس وزراء للصين. لم يحظ أي قيادي صيني في تاريخ الصين الحديث على إجماع شعبي ورسمي في حياته وبعد موته كما حظي شو إن لاي. ولم يحصل أي منهم على نفس القدر من الاحترام والشهرة الدولية كما حصل عليه أول رئيس وزراء للصين الجديدة.

كان الضرورة التاريخية التي جاءت في اللحظة المناسبة ليصبح ثالث ثلاثة قدر لهم تغيير وجه الصين. فبانضمامه إلى الثنائي الجامح ماو زي دونغ فيلسوف الثورة والجنرال جو ده الذي كان اسمه يثير الخوف والهلع اكتمل الهرم الذي تحتاجه أية ثورة كي تحول الفلسفة إلى واقع وتوجه البندقية نحو الاتجاه الصحيح وتخلق التوازن بين القوة والسياسة .

أصبح رأس شو إن لاي مطلوبا ويساوي وزنه ذهبا لمن يأت به حيا أو ميتا. لكنه استطاع تضليل الجواسيس والفرار بعيدا عنهم.

تمتع بثقافة ثورية عميقة صقلتها التجارب وبعقل عملي برع في نقل النظرية إلى ممارسة، وبأعصاب هادئة وإرادة صلبة بالإضافة إلى جاذبية شخصية وقدرة على الإقناع. فاستحق عن جدارة لقب قديس الثورة وضمير الدولة.

ولد في الخامس من مارس 1898في خوا لان بمقاطعة جيانغ سو وكان سليل أسرة أرستقراطية لكنه لم يصبح أبدا أسير مصالحها. عندما اشتد الخلاف السوفيتي ـ الصيني وعيّره الرئيس خريتشوف بتهكم معتبراً أن سبب الخلاف الأيديلوجي بين البلدين الشيوعيين هو تلك الجذور الإقطاعية والبرجوازية للقيادة الصينية في حين أن القيادة السوفيتية تنحدر من أصول عمالية وبروليتارية. لم يتردد شو إن لاي برد ثوري حازم ونبرة دبلوماسية هادئة لا تخلو من سرعة بديهة قائلا : “لكن قيادتنا وقيادتكم كلاهما خان طبقته يا سيادة الرئيس “.

التحق بجامعة أمريكية أقامها المبشرون الأجانب في مدينة تيانجين شمال الصين لكنه لم يبتعد عن ثقافة الصين وتراثها بالمواظبة على قراءة كونفوشيوس ولاو تزه مع والده في البيت. وسرعان ماجرفته الأفكار اليسارية وتعاليم صن يات صن ليصبح أحد قادة الحركة الطلابية التي عرفت باسم حركة 4 مايو عام 1919 وانتهت به إلى السجن ليخرج بعد عام زعيما طلابيا ثائرا.. وعاشقا لفتاة التقى بها في السجن تدعى دنغ لين تشاو لتصبح زوجته ورفيقة دربه وحياته. لكنهما لم ينجحا بإنجاب أطفال يخلدون ذكراهما أو ربما لم يحتاجا لذلك فقد خلدتهما أعمالهما وهي الباقيات الصالحات.

اختارت أسرته إبعاده عن هذه الأجواء المشحونة والأحداث الدامية فأرسلته إلى فرنسا ليكمل تعليمه في عاصمة النور باريس ويجوب جامعات الغرب في ألمانيا وإنكلترا. لكنه لم يتغرب بل حمل هموم شعبه والتقى بالحركات اليسارية هناك وأسس مع بعض رفاقه الصينيين ومنهم الزعيم الراحل دينغ شياو بينغ عصبة الشبيبة الشيوعية. درس العلوم السياسية وعاد عام 1924 إلى بلاده التي تمزقها الحروب ولكن هذه المرة كمثقف ثوري صقلته التجربة واكتسب المعرفة والخبرة ليخوض غمار الممارسة العملية.

التحق بثورة صن يات صن الذي أعجب بثقافته الواسعة فعينه مفوضاً سياسياً لكلية “هوامبو” مصنع قادة الثورة الجديدة.

تسلل إلى شنغهاي خلسة لينظم من داخلها أبرع انقلاب هادئ تشهده الصين. لكن اندلاع الحرب الأهلية بين الشيوعيين والقوميين بعد رحيل صون يات صن أدخل البلاد في حمام دم.

وأصبح رأس شو إن لاي مطلوبا ويساوي وزنه ذهبا لمن يأتي به حيا أو ميتا. لكنه استطاع تضليل الجواسيس والفرار بعيدا عنهم. وجهته هذه المرة كانت شرقا إلى موسكو حيث لم يغب طويلا فسرعان ما لبى نداء الثورة ليعود كثالث ركن في محور ماو وتشو ده. ليبدأوا معا ملحمة الثورة الصينية “المسيرة الكبرى” التي توجت بعد عناء طويل بنصر مبين فتح لهم أبواب بكين وأدخلهم التاريخ بإعلانهم تأسيس الجمهورية في الفاتح من أكتوبر عام 1949.

ما الذي كان سيحصل لو لم ينضم شو إن لاي إلى الثورة؟ الجواب على هذا السؤال جاء ممن ناصب الثورة العداء الرئيس الأمريكي نيكسون ”لولا وجود شو إن لاي لكانت الثورة الصينية قد أحرقت نفسها” لكن السؤال أعاد نفسه مرة أخرى بعد انتصار الثورة وبالتحديد جاء على لسان مؤسسها ماو زي دونغ شخصياً وهو الذي لم يكن يطيق أن ينازعه أحد كزعيم أوحد للثورة والدولة لكنه تساءل “كيف كنا سنحكم الصين لولا وجود شو إن لاي رئيسا للوزراء ؟.”

سؤال كان يبدو منطقيا جدا فقد نجح شو إن لاي بالحفاظ على الواقعية التي تحتاجها الدولة في ظل استمرار ماو قيادة الدولة بعقلية الثورة. ونجح أيضا بصفته وزيرا للخارجية بإبقاء باب الصين مفتوحا أو مواربا على العالم الخارجي في ظل جنوح ماو نحو العزلة.

لجأ إليه الحزب واعتمدت عليه الدولة في تمرير القرارات المثيرة للجدل أو لتخفيف حالات الاحتقان لما تمتع به من احترام حتى لدى من خالفه الرأي.

عنما اشتد أوار الثورة الثقافية منتصف الستينيات ودخلت البلاد في أتون من الاضطراب والفوضى وتجاوز الحرس الأحمر كل الخطوط الحمراء. نجح شو في حماية الكثير من المواقع والرموز الثقافية والشخصيات الاجتماعية من تهمة “النزعة البرجوازية” وكانت تلك من الكبائر التي قد تودي بصاحبها إلى التهلكة.

اعتبره ثعلب السياسة الأمريكية كيسنجر واحدا من ثلاثة شخصيات التقاها في حياته وحظيت على إعجابه وتركت لديه انطباعا عميقا لا ينسى. التقى به سراً وجاء بنيكسون علنا في رحلته التاريخية إلى الصين عام 1972 لينهي عقوداً من العداء مع واشنطن وينتزع منها اعترافاً بالصين كممثل شرعي للصينيين وبأن تايوان جزءا من الصين ، ثم ليتوج هذا الإنجاز بتطبيع كامل للعلاقات مع بكين.

وقفت الصين إلى جانب حركات التحرر العربي من فلسطين إلى الجزائر وكانت بكين أول عاصمة غير عربية يرفرف علم فلسطين في سمائها.

أرسى دعائم الدبلوماسية الصينية بالمبادئ الخمسة للتعايش السلمي التي أقرها مؤتمر باندونغ وأصبحت فيما بعد أحد أسس السياسة الدولية. أعاد بلاده إلى الأمم المتحدة وأدخلها إلى مجلس الأمن نسج علاقات مميزة مع دول النامية وتبني حركات التحرر دون أن يقطع الخيوط مع القوى الكبرى.

وقوف العملاقان عبد الناصر وشو إن لاي في مؤتمر باندونغ جنبا إلى جنب خطف الأضواء عن قادة كبار مثل نهرو وسوكارنو. وهناك اكتشف أهمية التضامن بين الدول الفقيرة والنامية.

أقدم على شراء خمسين ألف طن من القطن المصري رغم عدم حاجة الصين لها .لكنه مهد بذلك لإقامة علاقات دبلوماسية مع القاهرة فتحت له الطريق واسعا نحو آسيا وأفريقيا. ليقوم بعدها بزيارته الشهيرة إلى مصر.

وقفت الصين بعد ذلك إلى جانب حركات التحرر العربي من فلسطين إلى الجزائر وكانت بكين أول عاصمة غير عربية يرفرف علم فلسطين في سمائها وتفتتح مكتبا لمنظمة التحرير الفلسطينية وتفتح أبواب معسكراتها للفدائيين الفلسطينيين وتمدهم بالذخير والعتاد. ووراء كل هذا بالطبع كان يقف شو إن لاي.

توفي في يناير 1976 واتشحت الصين بأسرها بالسواد ونكست الأمم المتحدة علمها فقد كان بالفعل واحدا من الرجال الذين يتركون بصماتهم في الحياة ويجبرون التاريخ على تخليدهم في سطوره. كي نقوم باستحضارهم كلما دعت الحاجة ففي مثل هذه الليالي الظلماء يفتقد البدر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.