يعدّ الحسم في توجّه السياسة الخارجية خطوة أساسية ومحطّة مفصلية في مستقبل الدول والكيانات السياسية؛ ولذا يتم كشف التوجّه الخارجي العام في الدساتير والنظم الأساسية كمنطلقات، وتتم ترجمته كواقع في تصرّفات القادة ومواقفهم تجاه المتغيرات المستجدّة، فالتهوّر في هذه المسألة تكون له نتائج كارثية وفورية وبكلفة مادية ومعنوية ستظل الدولة تدفع فاتورتها طالما بقيت تلك المتغيرات الإقليمية أو الدولية التي أخطأت الدولة في استيعابها وفهمها. وهنا نقف مع مفردات المسألة، فالتضليل كله من الإجمال ودمج الجزء بالجزء لتشكيل كلٍ لا هو كل ولا جزء، وتتلاشى فيه حقائق بعض الجزئيات وتختفي، وتسود فيه أخرُ فتفرض حكمها على هذا الكل الهجين، فينتج تصور لا علاقة له بالحقيقة.
تسعى إثيوبيا وتبذل قصارى جهدها للتأكد من عدم قيام نظام صومالي يمكن أن يطالب بالأراضي المتنازع عليها، وهذا موقف طبيعي من طرف يعيش في ظل ظروف إقليمية ودولية تسانده وتصبّ في مصلحته. |
تأتي الرغبة الإثيوبية في عدم قيام دولة صومالية منافسة لها في القرن الإفريقي في مقدمة اعتبارات السياسة الإثيوبية تجاه الصومال، وهذا شيء طبيعي من قبل دولة تعتبر نفسها، وتوكد لها كل المعطيات في الواقع، على أنها صاحبة الكلمة الأولى في المنطقة، وهذه سياسة إقليمية لإثيوبيا وليست موجّهة للصوماليين فقط؛ إلا أن طبيعة العلاقات التاريخية بين الطرفين، وما ورّثته من تعارف تام بينهما، يجعل إثيوبيا دوما تتوجّس من هذا المارد العملاق ذو الطاقة الاستثنائية والروح المعنوية العالية؛ الأمر الذي يجعل سياستها الإقليمية هذه تتجلي بشكل واضح في علاقاتها مع الصومال أكثر من أي علاقة لها مع طرف آخر.
وهنا ينبغي لنا كصوماليين ألا نركن إلى فرضية العداء، وألا نعلن حربا قد لا تريد إثيوبيا إعلانها، علينا أن نصرّح لإثيوبيا أننا لسنا منافسين لها، ولا في طريقنا لنصبح لها منافسين، ونمنحها ونبدي لها كل ما يمكن أن يخفّف من مخاوفها هذه، فمعركتنا الحقيقية هي العودة إلى الحياة لا المنافسة على شيء غير موجود. وأول شيء نحذر فيه بخصوص هذا الأمر هو تفاعلنا مع الأطراف الخارجية صاحبة المصالح في المنطقة، والتي قد تتقاطع مصالحها مع مصالح الجارة وحلفائها الدوليين. لاحظوا مراقبة إثيوبيا وتفاعلها المواكب للأدوار التي بدأت بعض الدول تلعب في الصومال والقرن الإفريقي عامة.
من جهة أخرى، تسعى إثيوبيا وتبذل قصارى جهدها للتأكد من عدم قيام نظام صومالي يمكن أن يطالب بالأراضي المتنازع عليها، وهذا موقف طبيعي من طرف يعيش في ظل ظروف إقليمية ودولية تسانده وتصبّ في مصلحته، ويقف موقف المدافع القوي؛ فالواجب على الصوماليين عدم فتح هذا الملف كلّية؛ نظرا لحجم التداعيات المحتملة والمؤكدة لهذه الخطوة، ولأن الصومال سيخسر حتما في أي معركة يخوضها في ظل الظروف والأوضاع الإقليمية والدولية التي أوجدت المشكلة أصلا، وفي التاريخ عبر ودروس.
ثم إن إثيوبيا تعتبر إمكانية قيام دولة إسلامية صومالية بالشكل النمطي الذي تتصوره حدثا مفصليا ستتغير معه معالم المنطقة كلها، والذي يؤكد لها تلك الفرضية هو تاريخ العنصر الصومالي في المنطقة، وتحليل عقيدته الدينية القائمة على التوسّع (الفتح/الدعوة) كباقي المسلمين؛ وهذا اعتبار موضوعي، خاصة، مع دولة ذات تاريخ وحضارة عانت من طموح الإنسان الصومالي الفاتح المقدام. فعلينا كصوماليين أن ندرك، أولا وقبل كل شيء، أن رفض قيام دولة إسلامية في الصومال موقف دولي قبل أن يكون مطلبا إثيوبيا، وأن نعرف جيدا أن أي توجّه إلى إقامة دولة إسلامية في الصومال بمثابة إعلان حرب، ليس على إثيوبيا فقط، بل على النظام الدولي الذي نعيش تحت كنفه. علينا أن نتجاوز الخطاب الصحوي الوجداني العالمي الذي ساد فينا خلال العقدين الأخيرين، وأن نؤمن حق الإيمان أنه لا يمكن أن نحمل الإسلام قبل أن نحمل أنفسنا، بل لا يمكن أن نحمل الإسلام لوحدنا حتى إن استطعنا أن نحمل أنفسنا.
وفي بُعد آخر لعلاقتنا مع الجارة العجوز، ثمة اعتبار جييوبليتيكي محض، يتمثل في التخوّف من تحالف الصومال المتوقع والممكن مع أطراف إقليمية تخوض مع إثيوبيا صراعا مفتوحا بسبب تضارب المصالح البينية، وفي مقدمة تلك الأطراف جمهورية مصر العربية وإريتريا؛ فالجارة في حالة تخوّف دائم من الموقف الصومالي في صراعها السرمدي مع هاتين الدولتين، ويغذي مخاوفها تلك معطيات القراءة الأولية لطبيعة العلاقات التي يمكن أن تجمع الصومال مع كل من مصر وإرتيريا. فالذي يلزم القيادة الصومالية في هذا الموقف هو أن تدرك أنه في الحال الذي نتحاشى فيه عن فتح ملف قضيتنا الأساسية والخاصة مع إثيوبيا، فإنه لا يعقل أن نتخبّط في ملفات أكبر من قدراتنا، وعليها أن تتفاعل مع تلك الصراعات من خلال الأطر الإقليمية والدولية فقط، وبشكل لا يضرّ بالأمن القومي العربي ولا يغامر بالأمن الوطني الصومالي.
إن مشكلتنا التاريخية مع إثيوبيا، أوجدها المستعمر أو أشعلها هو على الأقل، ضمن حزمة إشكالات خلّفها في مستعمراته ليتحكّم بها فيما بعد، وليظلّ أهلها في حالة صراع دائم. |
أخيرا، يمكن أن نختم حديثنا عن الاعتبارات الإثيوبية في سياستها تجاه الصومال بمطلب إثيوبي حسّاس جدا، وهو التأكد من خلوّ الصومال من أوكار المعارضة الإثيوبية والخارجين عليها، والجارة حذرة جدا من أن تصل إلى سدة الحكم في الصومال مجموعة يمكن أن تتعاطف مع هؤلاء لأسباب أيدلوجية أو نَسَبِية أو تنظيمية. وفي وجه هذا الاعتبار، ينبغي لنا جمعيا، حكومة وأحزابا وقبائل وجماعات، أن نحسم أمرنا في هذا الموضوع، ونصرِّح للجانب الإثيوبي بأنه سيكون في مأمن من مشرقه، ونبرهن له بالفعل موقفنا الحاسم في هذا الأمر؛ وذلك لسبب بسيط هو أننا، وفي معركتنا للعودة إلى الحياة، لن نستطيع تحمّل ردّ الفعل الإثيوبي الذي سيكون قاصم ظهر للدولة الصومالية التي تمرّ لحظة الانعاش أو الإفاقة في أحسن الأحوال.
وبعد سرد الاعتبارات الإثيوبية السالفة، ينبغي أن نؤكد هنا على حقيقة أساسية ومفتاحية يعاند البعض في قبولها، ويحاول آخرون التشكيك فيها، وهذه الحقيقة هي أن إثيوبيا الحالية ليست بتلك التي علقت في أذهاننا؛ لقد تغير كل شيء تقريبا، وتجاوز الزمن الكثير من الاعتبارات والمسلّمات، إثيوبيا اليوم ليست متحمّسة لخوض صراع مع الصومال مع ضعفه، وليست متغطرسة بالشكل الذي يمكن أن يتصوره البعض، خاصة بعد درسها الأخير مع المحاكم.
علينا أن نفكّر أيضا، وبشيء من المنطق والعدل، أن مشكلتنا التاريخية مع إثيوبيا، أوجدها المستعمر أو أشعلها هو على الأقل، ضمن حزمة إشكالات خلّفها في مستعمراته ليتحكّم بها فيما بعد، وليظلّ أهلها في حالة صراع دائم، يجعلهم يتخلّفون عن ركب الحضارة والتقدم، ويبقيهم سوقا لمنتجات المستعمر، وحظائر مستباحة تُنهب ثرواتها ومواردها بما فيها البشرية.
لا تنظروا إلى الدول من خلال الأنظمة الحاكمة لها، أو التي حكمت، والتي يمكن أن تختفي بين عشية وضحاها، فكّكوا منظومة الدولة الإثيوبية، وأقرؤوها من خلال تحليل نظمي دقيق؛ ليكتشف كل واحد منا نوع العلاقة التي يجب أن تكون بين الصومال وإثيوبيا، وتفرجّوا بعض الوقت على الصورة الواضحة الآن لمستقبل إثيوبيا، لتقفوا على حقائق قادمة نحن في طريقنا للاصطدام بها. لقد كان للصراع الإثيوبي الصومالي ألا يقوم، وكان من المفترض ألا يستمر، وعليه الآن أن يتوقّف.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.