شعار قسم مدونات

حديثٌ عن الحكايات

blogs-books

يتساءل البعض عن سرّ الرواج الكبير الذي تلقاه الرواية عند القرّاء، وعما يميزها عن سائر أنواع الكتب عامةً، والإصدارات الأدبية خاصة. حقيقةً قد تبدوا هذه الافتتاحية مبتذلةً لفرط تكرارها والخوض في موضوعها الذي كُتب فيه الكثير، لكنه مع ذلك يضل مرناً وقابلاً لإعادة التناول من جوانب مختلفة وبآراء متعددة.

إن العلاقة الوثيقة بين الإنسان والحكايات تولّدت منذ القدم، ربما رويت الحكاية الأولى في كهفٍ حول شعلة نارٍ متّقدة، بعد يوم شغلٍ شاق.. أو ربما قبل ذلك.

القصّ أو الحكي هو في أحد تعريفاته عملية "أسطرة" المعارف الإنسانية، أي تحويل المعرفة الإنسانية حول موضوعٍ ما إلى ما يشبه الأسطورة. خذ عندك مثلاً الثورة الفرنسية التي تصنّف ضمن أهم الأحداث التي رسمت عالمنا بشكله الحالي. فمع أنّ المكتبات تضج بالكتب التي تؤرخ لتلك الفترة، وتناقش الأسباب التي قادت إلى تلك الثورة، إلاّ أن أول ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن تلك الحقبة هي رواية البؤساء للكاتب الفرنسي فيكتور هيجو.

عند قراءة عملٍ روائي أو الاستماع إلى قصة، فإنّ القارئ/المستمع يحاول الاتساق مع إحدى الشخصيات بوضع نفسه مكانه، أو مقارنة المغامرات التي يخوضها بتجارب مرّ بها.

وما يميز هذا العمل الأدبي عن الكتب التي أرّخت لتلك الحقبة من الزمن، أن القصة أعطت بُعداً أسطورياً لحدث وقع بالفعل وكان له تأثيرٌ نافذ، بل وما زالت أصداءه تصلنا في هذا الزمن. وللمفارقة فإنك قد تجد أن جان فالجان أو كوزيت (وهما من شخصيات الرواية) أكثر شهرةً وأهميّةً من بعض من كان لهم تأثير مباشر في الثورة الفرنسية، بل إنّ الدراسات والمقالات النقدية التي كتبت عنهما تباري تلك التي تناقش أبطال الثورة نفسها!

والأمثلة في هذا المجال كثيرة؟
عربياً، يكفي مثلاً الحديث عن كتابات غسان كنفاني التي لخصت أزمة الهوية والوطن، ودقّت أجراس إنذار مبكرة لما هو قادم، فصارت تاريخاً موازياً للتّاريخ. حتى أصبحت بعض الجمل التي كتبها شعارات تخطّت حدود الوطن/فلسطين إلى ما هو أبعد. "لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟"، "أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله".

يقول الروائي البريطاني جورج أورويل: "إنّ أفضل الكتب هي تلك التي تخبرك بما تعرفه بالفعل". إن هذه العبارة تختزل جانباً آخر من العلاقة بين الإنسان والحكايات. فالإنسان كائنٌ معتزّ بنفسه، صلف أحياناً، يسعى إلى التقدير حتى لو كان هذا التقدير مبنياً على قاعدةٍ من الخيال، وهذا ما تقدمه له الحكايات. فهي تتقاطع بشكلٍ أو بآخر مع شيءٍ مع خبراته الحياتية.

عند قراءة عملٍ روائي أو الاستماع إلى قصة، فإنّ القارئ/المستمع يحاول الاتساق مع إحدى الشخصيات -البطل عادةً- بوضع نفسه مكانه، أو مقارنة المغامرات التي يخوضها بتجارب مرّ بها في حياته، أو مر بها شخص يعرفه. وفي حالة القصص الماورائية -تكون أحداثها غير قابلة للحدوث في الحياة الواقعية لشدة غرابتها وخوضها في الخيال- أو الخوارق فإن القارئ يلجئ إلى مقارنة المكاسب النفسية التي جنتها إحدى الشخصيات خلال مرورها بعُقد وأحداث الحكاية، بتلك التي مرّ بها في حياته الواقعية. فهو اكتسب شجاعةً مفرطة بعد خوض غمار مغامرةٍ ما، أو مرّ بتجربةٍ عاطفية غيرت وجه أيامه، حاله كحال الشخصية التي يتسق معها.

هذا يفسر مثلاً ظاهرة الكتب الأكثر مبيعاً، التي تُنتقد عادةً لركاكة محتواها وضعف لغتها، إلا أنها مع ذلك تواصل الانتشار، لأن الفئة المستهدفة بها تجد فيها ما يناسب ذائقتها، ويتقاطع مع ما يهمها وما تشعر به. وقد يفسّر أيضاً تفاعلنا الشديد مع ما يصيب شخصيات القصص والأفلام، الخيالية، مع أننا أحياناً نمرّ على أخبار الوفيات في نشرات الأخبار دون أن نتفاعل معها بالشكل اللازم!

الحديث عن الحكايات حديثٌ مهم، على أن البعض قد يراه، كما أشرت في البداية، مبتذلاً. لكن في الحقيقة.. ليس كل مبتذلٍ بالٍ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.