هل جرَّبتَ أن يسيطرَ عليك هاجسُ الذَّنب في كلّ تفصيلٍ من تفاصيل حياتك؟! وهل جرّبت أن محاولاتِك للهروب من هذا الإحساسِ الجلَّاد تبوءُ بالفشل الذَّريع المُريع في كلّ مرة؟!
في الربيع الذي كانَ يختالُ ضاحكًا قبلَ الدَّمِ والبلوى لم يعد للورد جمالٌ يسبي اللبّ ويذهبُ بالروح بعيدًا؛ إذ كلما أطلقتَ البصرَ في زهر التوليب المتناثر على خدّ إسطنبول لم ترَ فيه إلا دماً يضمخ وجنتيّ طفلٍ لم تسمح له أسراب الغربان بركوب دراجته في السهولِ الفسيحة أو الزورايب الضّيقة وسرعان ما عاجلته طعناتُهم وهو الذي لا يستحقُّ إلا قبلةً.
| إنَّ العجزَ المقترن بهاجس الذّنب قد حوَّل الصور المتدفّقة من أرض الحربِ أرضنا الثكلى إلى معولٍ كان كفيلاً بتمزيق ما بقي من كياناتنا وحتِّ أرواحنا حتًا وحزِّ الصّدر بحزاز لا يشبه إلا بكاءَ طفلٍ. |
أمّا الصَّيف فلم تضيّع اللّبَن فقط، بل ضيَّعَت البهجة وضيَّقَت شرايينَ الأملِ؛ فكلما نظرت إلى الفاكهة المرصوفة بهندسيَّةٍ لم تنقلكَ إلى أسواق دمشقَ العتيقةَ كما هو المأمولُ ولكنَّك سرعان ما ترى على رفوفها هياكل بشريّة تأتيك من مضايا ومخيم اليرموك والزبداني، أيّ عالمٍ فجٍّ هذا الذي لا يريد لنا أن نهنأَ بشيء؟!
هل فكرتَ يومًا ماذا يعني أن تشعر بطعمِ الدّم في فمكَ وأنتَ تمضغُ لقمةً ترتجي هناءتَها بعدَ يومٍ من الإرهاقِ حينَ تقع عينيك على يدٍ تتحرّك تحت الأنقاض في حلب في موتنا المعلنِ على الشّاشاتِ المتآمرةِ على أرواحنا وقلوبنا وفطرتِنا التي تشوَّهت؟!
حتى عندما تفتح كتابًا لتهربَ من إحساسكَ بالذّنبِ تطلّ عليك طفلةٌ بضفائرها الفطريّة التي لم تضفرها لمدرسٍة من سنواتٍ من خلف ستائرِ الحروفِ السّوداء لتقول لك بانكسارِ الطّفولة القاتل: أنا كمان بدي أتعلّم!
وفي الحافلةِ إلى عملِك لا ترى إلا وجوهًا من وطنكَ أنهكتها الحربُ والغربةُ وتسمعُ في صمتهم صوتَ انكسار الجليدِ تحتَ أقدامِ العابرينَ، وترى في نظراتِ أهلِ البلدِ تأنيبًا يأتيكَ فوق ما أنت به وكأنهم يقولون لك: لم أنتَ هنا وأهلك هناك يُقتلون؟!
أمّا المطرُ فهو قصّةٌ أخرى، رحمَ الله أيام كان المطر يهيجُ الشوق والحنين إلى المجهول ويغدو السير تحته طقسًا لاستحضار سعادةٍ غيبية تنهال معه من المحلِّ الأرفع، ليغدو اليومَ سوطاً يجلدنا كلّما فكرّنا بأن نفرحَ قليلاً تحته أو ترتجف قلوبنا وهي تغتسل بطهره، فسرعان ما نرى المنكمشين على أنفسهم في عراءٍ فاضحٍ للإنسانية، والناضحين الماء من قلب الخيام وهم يلعنون الدنيا كلّها، مع رائحة ذكرى تفوح بها دماء حُمِّلها المطر من الأحباب الشهداء.
والثلجُ -أوَّاه من لعنةِ الثّلج- لم يعد بياضه كما كان يومًا باعثًا للطمأنينة والهدوء وتبادلِ الفرحِ بالتّجرّد من الرّزانةِ والانعتاقِ من الاتزان في رحابِه؛ ولم يعد للتّفكّر بهيبة صمته وهو يتسارع إلى الأرض دهشة في النفس، بل غدا ظلمةً تُعرّينا أمام ارتجاف أوصال أمٍّ لا تجد ما تدفّئ به رضيعها ليموتَ رويدًا رويدًا بردًا بين يديها بكل هدوء ونحنُ لا نملك إلا دموعنا تحت اللّحف والهروب من نظراتِها التي لا يمكنُ فكَّ رموز لغتِها.
وفوق كلّ هذا الإحساسِ الذّنبِ في تفاصيل أيّامك الصغيرة والكبيرة يأتيك العجزُ ليكملَ ما أنتَ به من موتٍ بعضه فوقَ بعض. فهل جرّبتَ أن تكون عاجزًا وأنتَ عندك من الهمّةِ ما تفجِّر به الأرض حياةً إن مشيت عليها؟!
وهل جرّبت ارتطامَ اندفاعكَ بجدار العجز الصّلدِ وأنت الذي تتدفق روحك عنفوانً وشبابًا. هل جرّبت أن تكون عاجزاً بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من معاني القهرِ؛ قهر الحرب والدّمعة وابتسامة الطّفولة الشّريدةِ وقهر نظرةِ البسطاء الذين يظنّون أنّ بِيدِنا نحن الغارقين في عجزنا شيئًا.
| طوبى لهم وقد دفقوا في حياتِنا مثل نبعِ الفيجةِ بردًا وسلامًا على أرواحنا الحرّى، وجعلونَا نوقنُ أنَّه مهما دمّر الطّغاةُ مجاري الينابيع فلن نعطشَ ما داموا هم نبعنا الدفَّاق. |
إنَّ العجزَ المقترن بهاجس الذّنب قد حوَّل الصور المتدفّقة من أرض الحربِ أرضنا الثكلى إلى معولٍ كان كفيلاً بتمزيق ما بقي من كياناتنا وحتِّ أرواحنا حتًا وحزِّ الصّدر بحزاز لا يشبه إلا بكاءَ طفلٍ وهو يحاول إيقاظ أمِّه التي لن تستيقظ أبدًا، ولن يتذكّر منها إلا يديه الغارقتين بدماء صدرها؛ هل من الممكن أن نغيش الحرب بتفاصيلنا ونحن البعيدين عنها؟ يا لحى الله الخنساء إذ تقول:
ومن ظنّ ممّنْ يُلاقي الحروبَ
بأنْ لا يصابَ فقدْ ظنَّ عجزا
أُصبنا قريبين بعيدين، ولا ضير ونحن اخترنا الطريق
وفي نهاية عام العجزِ وهاجسِ الذَّنب؛ طوبى لأولئك الذينَ كانوا يبعثونَ فينا الأملَ وهم تحت البراميل والقذائف وصواريخ الخذلان؛ خذلاننا كلّنا من المحيطِ إلى الخليج، ومن الإنسانية المدّعاةِ إلى الإنسانية الزائفة، طوبى لكل من أزهرت من فوهات ثباتهم أيامُنا، وأشرقت من خلفِ أكفّهم القابضة على زنادِ الحقّ شموسُنَا فكانوا ضّياء عامنا هذا في الليل البهيم المستبد..
طوبى وألف طوبى لهم وقد جعلوا من الحتوفِ جسرًا إلى حياةٍ لا كالحياة، طوبى لهم وقد دفقوا في حياتِنا مثل نبعِ الفيجةِ بردًا وسلامًا على أرواحنا الحرّى، وجعلونَا نوقنُ أنَّه مهما دمّر الطّغاةُ مجاري الينابيع فلن نعطشَ ما داموا هم نبعنا الدفَّاق، وكأنَّ الجواهريّ واقفٌ على ناصيةِ العامِ الجديدِ يخاطبُهم بسلامي وسلامكم:
سلامٌ على حاقدٍ ثائـرِ *** على لاحبٍ من دمٍ سائرِ
يخبُّ ويعلمُ أنّ الطّريـ *** ـقَ لابدَّ مفضٍ إلى آخرِ
سلامٌ على جاعلين الحُتو *** فَ جسراً إلى الموكبِ العابرِ
سلامٌ على نبعةِ الصَّامدين *** تعاصَتْ على مِعولِ الكاسر
سلامٌ على مثقلٍ بالحديد *** ويشمخُ كالقائدِ الظّافرِ
كأنّ القيودَ على مِعصميه *** مفاتيحُ مُستقبَلٍ زاهرِ
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

