شعار قسم مدونات

ومن أحلامنا.. مطار

blogs-غزة
 
أن تتمكن من الدخول والخروج متى احتجت أو أحببت هو أهم فرق بين غرفة المنزل وغرفة السجن التي يتحكم في أبوابها ونوافذها السجان فلا ترى الآخرين أو تسمع أصواتهم إلا بمقدار ما يسمح به لك، لم أجرب شعور السجن لكنني جربت العيش في غزة، ولعل بعض الأمور متقاربة فما الحصار إلا سجن للإنسان داخل الجغرافيا ونسف للكثير من آماله وطموحاته فالفرص محدودة أو شبه معدومة والخيارات ضيقة.
 

تتنوع وتتمايز الهموم هنا تحت الحصار وشتى صنوف العذاب موجودة والحرمان بأنواعه كافة موجود، وقد أسهب كثيرون في الحديث عن الجوانب الاقتصادية المأساوية لهذا الواقع والتي أتت على الكثير من المهن والفئات حتى بات أكثر الناس يعتاشون على المساعدات وهم في هذه البقعة ذائعة السيط منوطة

من سخريات القدر أن هذا المعبر يشعر أكثر ما يشعر بالموتى، فكثيرًا ما فُتح لإدخال جثث أما الأحياء والأصحاء فقليلًا ما يبالى بهم

بهم آمال كبيرة كان ولايزال الخذلان أكبر منها.
 

إلا أنني هنا سأركز على جزئية واحدة تحمل أجزاء كثيرة من الوجع والقهر في نفوس أصحابها، الذين يصبرون الشهور تلو الشهور والسنون أثر السنون كي يمنحوا فرصة للحياة وتحقيق أحلامهم الوردية في الحياة
 

وهؤلاء هم فئة غير الحالات الإنسانية المعتادة الذين يريدون السفر لكنهم ليسوا أولوية في قوائم المسافرين لأنه لم يتم تصنيفهم من تلك الحالات الإنسانية، ومنهم فتيات بانتظار ساعة الفرح والخروج إلى خطابهم وأزواجهم في الخارج
 

أعرف منهن من تنتظر منذ سنوات ويرابطن عند باب المعبر كلما فتحت أبوابه استثنائيًا لساعات بعد شهور من الإغلاق، ومنهم تجار ومنهم أبناء أو آباء أو أمهات تفرق شملهم عن أهليهم ومنهم بشر يريدون العيش بحرية.
 

ومن سخريات القدر أن هذا المعبر يشعر أكثر ما يشعر بالموتى فكثيرًا ما فُتح لإدخال جثث أما الأحياء والأصحاء فقليلًا ما يبالي بهم، وهنا في هذا القطاع تجد غالبية الناس قد بلغوا الستين والسبعين عاما من عمرهم وليس لديه جواز سفر، والمحظوظ منهم ليس في سجله سوى سفرية يتيمة نحو مكة والمدينة، قد ظفر بها بعد انتظار يصل أحيانًا إلى أكثر من ١٠ سنوات من بعد التسجيل ومنهم أشخاص ماتوا وهم في انتظار فرصة للحج أو العمرة، وكذا أصبح حال المسافر العادي بعضهم ينتظر موعد سفره منذ ٣ سنوات ويزيد.
 

قابلت شخصًا ذات مرة وسألته إن كان سافر في حياته ولو لمرة خلال الستين عاما فقال: "نحمد الله أن لدينا تلفازاً رأينا من خلاله العالم ورأيت من خلاله الطائرة ورأيتها قبل ذلك في مطار غزة الدولي قبل قصفه من الاحتلال".
 

ما زلت على قناعة بأن هذا العالم لا تقرع آذانه سوى أصوات البنادق لا أصوات الأقلام

مع أنني لم أسافر يومًا من ذلك المطار إلا أن الحنين يشدني إليه وإلى مبانيه ومرافقه التي كانت محطة للرحلات المدرسية في صغري وكنت استمتع بالتجول فيها برفقة أحد أعمامي الذي كان يعمل ضابط أمن هناك، ولم تستمر فرحتنا بهذه البوابة الحرة سوى سنوات قليلة نال منها الحقد الصهيوني دون مبرر عام ٢٠٠١ وعبرت جنازير الدبابات الصهيونية على المباني وصادرت الطائرات ومعها صادرت الكثير.
 

لا أدري إن كان مسموح لنا في ظل الاحتلال أن نحلم مجددًا بأن يكون لنا مطار أو لا، ولا أدري إن كان الفلسطيني بنظرهم يستحق العيش أو لا، لكنني ما زلت على قناعة بأن هذا العالم لا تقرع آذانه سوى أصوات البنادق لا أصوات الأقلام، فلعله يأتي اليوم الذي يكون لنا فيه قوة نستطيع أن نفرض من خلالها أحلامنا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان