لنتخيَّل أن الإله قبل أن يخلق العالم، قد خلق حاسوباً (computer) إلهياً عظيماً، ثم خلق العالم داخل هذا الحاسوب. المكان-الزمان والمادة والقوانين التي تحكم المادة، كلها قد تم خلقها داخل هذا الكمبيوتر الإلهي العظيم. الإنسان والذات والعقل والمعرفة والخيال نفسه، كلها عبارة عن بيانات وخوارزميات وبرامج في جزء محدود من ذاكرة هذا الكمبيوتر. هُناك أفلام كثيرة عبَّرت عن هذه الفكرة، أو عن أفكار مشابهة بطرق مختلفة: فكرة إننا نعيش داخل شريحة إلكترونية صغيرة، و أن العالم والكون والوُجود كله ليس سوى برنامج يعمل داخل أحد الأنظمة الحاسوبية. أي أن الوُجود عبارة عن عدد من الكلمات والرموز مخزنة في ذاكرة كمبيوتر، وعندما تَمّت معالجة هذه الكلمات بطريقة محددة كُنّا نحن، هذا كل شيء، هذه هي قصة و حقيقة وجودنا باختصار.
نحن هُنا نرى ظلال الأشياء، والتي يرمز لها هذا المقال بالكلمات والرموز في ذاكرة الحاسوب الإلهي. ولكن من أين جاءت هذه الكلمات والرموز ؟ لقد جاءت من عالم المُثُل |
بالطبع هذه مجرد فكرة خيالية، و يُمكن أن يقول أحدهم أن هذه الفكرة بحد ذاتها، وبما أنها من إنتاج الخيال الإنساني، وبما أننا نعيش الآن داخل "شريحة إلكترونية" صغيرة، فهي تنتمي إلى حيّز تلك "الشريحة الإلكترونية" الصغيرة التي نُوجد داخلها كُلنا، وبالتالي فهي لا تمتلك أي أصالة وُجودية حتى كخيال. فهي أيضاً، أي هذه الفكرة الخيالية، عبارة عن مجموعة من الأحرف والكلمات والرموز في حيز صغير من الشريحة الصغيرة التي نقبع داخلها. بعبارة أُخرى لا يُمكن حتى للخيال أن يتخطى حدود هذه الشريحة.
لنستمر الآن في هذا الخيال الذي يحاول أن يتصوَّر الواقع الكُلِّي، و لكنه يجد أنه قد سجن نفسه داخل هذه "الشريحة الصغيرة". و هو الآن يقف أمام هذه الورطة الوُجودية التي وضع نفسه فيها ، فكل شيء فقد أصالته الوجُوديّة، بما في ذلك هذه الفكرة نفسها. الخيال، الإنسان، الوجود نفسه، "الشريحة الصغيرة"، الحاسوب الإلهي، فكرة الإله نفسها ، المعنى ، الما وراء، كلها أصبحت عبارة عن رموز فقط. و لا نملك كلمات من خارج مجموعة الرموز التي يضعها فينا تصميم هذا "الحاسوب الإلهي" لوصف الأشياء. و لذلك لا نستطيع الإشارة لهذا "الحاسوب الإلهي" إلا باستخدام الرموز التي يضعها فينا هو نفسه. لا معنى لسؤال مثل "أين يُوجد الكون" أو "ما هي حدود الوُجود" لأن كل شيء في النهاية مُبرمج، في الواقع السؤال نفسه عبارة عن رموز فقط.
هذه هي لحظة "ديكارت" نفسها و قد أُعيدت صياغتها في عصر التكنولوجيا و الذي يُعتبر ديكارت نفسه أحد آباءه. و سنرى موقف ديكارت ضمن عدد من الفلاسفة الآخرين. ولا ننسى أن الشك نفسه هُنا يصبح مجرد رموز في النهاية، ويفقد معناه و أصالته "الأنطولوجية".
لنتصّور بعض المواقف الفلسفية مواجهة هذا الموقف
أفلاطون: فكرة "الحاسوب الإلهي" هي نفس فكرة الكهف. الكهف هو "الشريحة الصغيرة" التي نحن محبوسون داخلها، ولكي نعرف الحقيقة لابد أن نخرج خارج الكهف/الشريحة.. العالم الحقيقي موجود هُناك خارج هذا الكهف، خارج "حاسوب الإله". نحن هُنا نرى ظلال الأشياء، والتي يرمز لها هذا المقال بالكلمات والرموز في ذاكرة الحاسوب الإلهي. ولكن من أين جاءت هذه الكلمات والرموز ؟ لقد جاءت من عالم المُثُل، إن صُورها الأصيلة والحقيقية موجودة هُناك في العالم الحقيقي.
( هكذا، الآن لأول مرة سنلتقي مع فكرة الإيمان )
مع الايمان الأفلاطوني لا يُمكننا الخروج من المُشكلة، فالذات الأفلاطونية هي عبارة عن كائن في ذاكرة كمبيوتر الرب، وجميع الأفكار بما في ذلك فكرة "العالم الحقيقي"، عالم المُثُل ، هي عبارة أفكار خاصة بهذه الذات الأفلاطونية المسجونة داخل الشريحة/الكهف، داخل "حاسوب الإله".
ديكارت: لنكُن كائنات في حاسوب الرب، و لتكن الذات نفسها عبارة عن موضوع ، لتكن الذات عبارة عن شيء في حاسوب الرب، لتكُن كلمةً أو رمزاً، و لكن في النهاية "أنا أفكِّر ، أنا موجود" لا يهم أين ولا كيف؟ و لا يهم الماهية المُطلقة للذات ولا للوجود ولا للفكر. المهم أنا أمتلك فكرة واضحة هي أنني موجود، و يمكنني أن استنتج بالفكر وحده و أن أبرهن وُجود الله، و بالتالي أن هذا العالم حقيقي (بالنسبة لذاتي )و أن الله لا يخدعنا لأنه كامل.
( بداية الوعي بالذات، وضع الذات في مركز الوُجود، الانطلاق من الذات و أفكارها الواضحة للبرهنة على الله و على حقيقة العالم و كل شيء)
مع ديكارت كل شيء بدأ يدور حول الذات الانسانية. في الواقع بالمعنى الأكثر إطلاقاً لكلمة واقع ، حتى هذا الافتراض الخيالي "افتراض حاسوب الإله" لا يبدأ ولا يدور خارج الذات الإنسانية، وإنما داخلها. بعبارة أُخرى "حاسوب الاله هو فكرة داخل ذاتي في النهاية، عقلي هو الذي يتساءل و يتشكك ويتخيّل ويفترض. هذا هو "الوعي بالإنسان". إن الخطأ الذي نقع فيه دائماً هو نسيان أننا نفكر داخل أنفسنا لا خارجها. و ستتضح هذه الفكرة أكثر مع فيلسوف آخر، أكثر حذراً من ديكارت.
كانط: إذا كُنّا نعيش فعلاً في "شريحة الكترونية صغيرة"، هذا سؤال لا طائل من وراءه. في "الواقع" لا يُمكننا أن نعرف خارج حدود التجربة والعقل. وهذا السؤال يقع خارج حدود التجربة المُمكنة. بغض النظر عن المعنى النهائي و المُطلق للكلمات "تجربة" و "عقل". في النهاية العقل هو المركز، والأشياء كلها تدور حول العقل. ولكن هُناك "أشياء حقيقية" خارج العقل.
(هذه هي "عتبة كانط": لنتقبّل حقيقة محدوديتنا، ولنستخدم عقولنا بحذر وبمشروعية، إن معرفتنا ليست محدودة بحدود "حاسوب الإله"، وإنما بحدود العقل. ولا أمل في الوصول إلى "العالم الحقيقي" ما دُمنا نفكّر بعقولنا، ولا معنى لقضايا كقضية "حاسوب الإله")
فكرة "حاسوب الإله" تدميرٌ لذاتية الإنسان، يجب علينا إلغاؤها ليشعر الإنسان بالحُرية |
مفكِّر هيجلي: "حاسوب الإله" هو في النهاية تجسيدٌ لفكرة إلهية. إذا،ً مهما كُنا فنحن النهاية تعبيرٌ عن الفعل الإلهي، وتجسيدٌ له، فالفكرة و الكلمة والرمز هي ليست منفصلة عن العقل المُطلق في النهاية . "عتبة كانط" سجنٌ ينبغي تحطيمه، ليس هُناك حدود بين "العالم الظاهري" و "العالم الحقيقي".
نيتشه: لنتجاهل كل هذا.. المؤكَّد أن هذا العالم فظيع وبشع، هذه هي حقيقة العالم ،ولكنه أيضاً جميل و رائع و يستحق الحياة. أما العقل فهو أداةُ خرقاء في يد الجسد، فلنتجاهل خيالاته المريضة هذه، على الجسد أن يحتفل بالمأساة العظيمة لوجودنا.
سارتر: فكرة "حاسوب الإله" تدميرٌ لذاتية الإنسان، يجب علينا إلغاؤها ليشعر الإنسان بالحُرية. و لكن ما أهمية الإنسان ؟ إنه عاطفة عديمة الجدوى.
الدين كمؤسسة: هذا الافتراض الخيالي لا داعي له من الأساس. كل شيء واضح و معروف "بالضرورة" و مُحدَّد تماماً ، و يجب التقيُّد بحدود "المسموح التفكير فيه".
الدين كإيمان/ كحُرّية: ( لا يُمكن تصوُّر موقف الإيمان الديني لأنه يتوقف على الروح الحرة للإنسان ، و لكنه على أي حال، و لهذا السبب بالذات، ليس هو موقف المؤسسة الدينية).