شعار قسم مدونات

الفيروس الرأسمالي قاتل اقتصادي

blogs-دولار
تمكنت الرأسمالية من تجديد أدواتها في الهيمنة، تمكنت من جعلها أكثر نعومة وسلاسة، أضافت إلى جبهة المعارك العسكرية، حروبًا على جبهات الثقافة والاقتراض الاقتصادي والتعليم والسلوك الاجتماعي الذي تمكن منه الاستلاب المبرمج.

نخوض معارك مركبة على جبهة المصطلحات وإعادة تعريف المفاهيم، فما أسمته الرأسمالية بمجتمع الوفرة ليس إلا مجتمعًا للاستعراض تعلن فيه السلعة استعمارها الكلي للحياة، وما أسمته حرية ليس إلا اغترابًا للإنسان عن الطبيعة والبشر، وما اختصرته في صناديق الاقتراع المحاطة برأس المال والوهم الميتافيزيقي لا يمكن أن يكون التعبير الدقيق عن الديمقراطية.
 

في الرأسمالية، في اقتصاد المافيا والدعارة والموت، باتت هناك ضرورة تاريخية لا مناص منها، فإما مجتمع منتج متحضر وإما الهمجية التي لربما تقودنا جميعًا إلى الانقراض.

أدوات الهيمنة الجديدة

القروض تتحول إلى سطو المراكز على موارد الأطراف، وهو تحول واضح من صيغ اقتصاد المال إلى اقتصاد الموارد.

انتقلنا الآن من حقبة الاستعمار المباشر كخيار أول للدول الاستعمارية، وتشكلت عدة خطوط ومحاور تتمكن من خلالها المراكز الإمبريالية إحكام السيطرة. في حقبة الاستعمار، كان الجيش أول الخيارات، النهب المباشر والصريح للموارد الطبيعية للأطراف، وكانت الحاجة لخلق حكومات عميلة تظهر في أوقات متأخرة إلى حد ما مقارنةً مع ما نراه اليوم.
 

غزو الأطراف اليوم يأخذ مناحي متعددة، وخطوط الهجوم للمراكز على الأطراف كثيرة ومتداخلة ومتآزرة: الغزو المالي بتوريط دول الأطراف بالقروض غير ممكنة السداد ضمن منطق رياضي بسيط يخلق تبعية سياسية لا نهائية للمراكز.
 

تحدث جون بركينز في كتابه اعترافات قاتل اقتصادي عن أشكال التوريط المالي لدول الأطراف بحيث تبقى مدينة اقتصاديًا وبالتالي سياسيًا ومن الأمثلة على ذلك: غزو أفريقيا بمشاريع لا تتناسق مع مستوى التطور فيها، وتقديم خدمات تتجاهل العجز الحاصل في أفريقيا من البنية التحتية الأساسية إلى الصحة والتعليم، ففي ساحل العاج لم تتردد المراكز في خفض رواتب المعلمين لتحقيق أهدافها ومنح ساحل العاج قرضًا، على الرغم من أن ذلك يؤثر سلبيًا على مستوى التعليم فيها.

وأوضح جون بكينز أن هناك ثلاثة خطوط أساسية للإجبار على الدخول في لعبة القروض؛ لعبة المنطق الرياضي البسيط الذي سمي اقتصادًا:
أولًا: الإقناع والتفاوض وخلق الحكومات العميلة التي ستستفيد لاحقًا من ذلك، كما حدث مع معظم دول الشرق الأوسط والوطن العربي.
ثانيًا: أبناء آوى القائمين على مهمة الاغتيال، كما حصل في بنما مع عمر توريخيوس وفي الإكوادور مع جيم رلدس.
ثالثًا: التدخل العسكري المباشر، ما حصل في العراق وأفغانستان.
 

يعد التوريط المالي تعبيرًا حقيقيًا عن ملاحظة سمير أمين في كتابه "الفيروس الليبرالي" الحرب الدائمة وأمركة العالم للاقتصاد الرأسمالي بأنه نظرية اقتصادية خيالية ليست ذات ارتباط بالواقع، فالمال في النهاية أو الدين يعود لاستحقاق الموارد، بمعنى أن القروض تتحول في نهاية المطاف إلى سطو المراكز على موارد الأطراف، النفط والذهب واليورانيوم، هو تحول واضح من صيغ اقتصاد المال إلى اقتصاد الموارد؛ الاقتصاد الأساسي الذي قامت عليه معظم النظريات الاقتصادية الكلاسيكية، فما يتم استدانته مالًا يسد براميل من النفط وأطنانا من الحديد والذهب.
 

"
فك الارتباط المالي والاقتصادي هو القرار السياسي الجريء الذي يتطلب مجموعة من المحددات على رأسها إسقاط الأنظمة السياسية في الأطراف المدافعة عن هذا النظام.

في معالجة التوريط المالي هناك توجهان:
الأول هو دخول اللعبة باعتبار الدولار العملة القياسية والاستمرار في السداد والاستمرار في التحصيل على حساب الفئات الشعبية المفقودة، وهذا التوجه يعني بشكل آخر، اللعب في ساحة التفاصيل، التفاصيل الاقتصادية التي فرضها النموذج الاقتصادي الرأسمالي نفسه، أي محاولة الهروب بأدوات المدرسة نفسها. وهذا الاتجاه لن يفرز سوى المزيد من التبعية والتخلف، وستدخل المسألة في نفق لا نهائي من الديون والسداد المتواصلين.

 

والثاني راديكالي الطابع يستلزم فك الارتباط المالي والاقتصادي وخوض المغامرة بالكامل وصناعة تحالفات سياسية واقتصادية جديدة وبناء اقتصاد من طابع مختلف، من حزمة التبعية والاستهلاك إلى حزمة الإنتاج والتحالف التضامني. ويعد المعيق لمثل هذه الأطروحة هو الأنظمة السياسية غير الراغبة في هذه الخطوة لانتفاء مصالحها معها، وهنا لابد أن نميز بين الرغبة والإرادة من جهة والقدرة من جهة أخرى، فهذه الأنظمة جميعها تستحضر شعار العجز عن الإقدام على هذه الخطوات وليس الرغبة أو الإرادة. 

هذه الخطوة ليست مجنونة أبدًا، ففك الارتباط المالي والاقتصادي هو القرار السياسي الجريء والذي يتطلب مجموعة من المحددات على رأسها: إسقاط جميع الأنظمة السياسية في الأطراف المدافعة عن هذا النظام لأنها لن تخطو هذه الخطوة أبدًا ولن تنحاز لمصلحة المجموع على حساب مصلحتها هي، ومن هنا فلا مجال لإصلاح هذه الأنظمة، ولا مجال لتجميل قمعها وأساليبها الخداعية، ولا مجال لشراكتها في أي مشروع قادم. هذه الخطة تتطلب في المستوى الثاني تكتلًا اقتصاديًا وسياسيًا ومعرفيًا وتقنيًا وصناعيًا لدول الأطراف.
 

هذا التكتل القادر على وقف التدفق من الشمال إلى الجنوب. هذه المرحلة مرحلة متعبة، فهي المرحلة التي ستبدأ فيها الأطراف في الخروج عن راحتها في الاستهلاك لما صنع في المراكز، وتبدأ بالضرورة مرحلة إنتاجية لبناء مجموع اقتصادي منتج، هدفه ليس الظهور بالشكل السيادي الشوفيني، ولكن هدفه الأساسي إحداث التنمية الحقيقية والحداثة الواقعية.
 

الغزو الثقافي من خلال مؤسسات التدريب المختلفة من الأنظمة التقنية التطبيقية البسيطة إلى برامج الانتخابات، ومنظمات حقوق الإنسان، ومنظمات تحرر المرأة، ومؤسسات تربية الطفل، ومؤسسات تعليم بناء المشاريع الخاصة، وضيوف أجانب حزينين على واقع الأطراف.
 

"
أميركا وألمانيا زرعتا بأوكرانيا 399 منظمة دولية و421 منظمة خيرية و179 منظمة غير حكومية لدعم قائد الثورة البرتقالية في الغرب ضمانًا لقطع أي معاملات بين روسيا وأوكرانيا.

ففي كتاب من يدفع للزمار، الحرب الثقافية الباردة، للكاتب فرانس ستونر سوندرز يقول: بدأت وكالة المخابرات المركزية منذ عام 1947 في بناء اتحاد له واجب مزدوج وهو تحصين العالم ضد الشيوعية وتمهيد الطريق أمام مصالح السياسة الخارجية الأميركية، وكان من ذلك أن تشكلت لجنة محكمة من البشر الذين يعملون بالتوازي مع الوكالة للترويج لفكرة مؤداها أن العالم بحاجة إلى سلام أمريكي، إلى عصر تنوير جديد وأن ذلك سوف يسمى القرن الأمريكي.
 

ومن هنا انطلقت تلك المنظمات إلى ترويج مجموعة من المصطلحات كالمشاركة، التمكين، التنمية السياسية، وكذلك المجتمع المدني، المجتمع المدني، المفهوم القديم الجديد، الذي كان مغطىً بالتراب ولا يبحث عنه سوى المؤرخين المهتمين بجون لوك وهيجل.
 

وقد نجحت تلك المنظمات في القضاء على جميع أشكال التعاون الاقتصادي بين أوكرانيا وروسيا لما يشكله ذلك التعاون من مخاطر على المشروع الرأسمالي، فقد نشر في كتاب مقدمة التمويل الأجنبي ومنظمات المجتمع المدني، للرابطة الشعبية العربية لمقاومة الإمبريالية والصهيونية بيانات مفادها: أن الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا قد زرعت في أوكرانيا 399 منظمة دولية و421 منظمة خيرية و179 منظمة غير حكومية لدعم فيتور بوشينكو قائد الثورة البرتقالية في الغرب وذلك ضمانًا لقطع أي معاملات اقتصادية بين روسيا وأوكرانيا.
 

في النهاية لا أحد ينكر أن العالم العربي ودول الأطراف إجمالًا تعاني من تخلف علمي، والمراكز معنية بالإبقاء على هذه الحالة كي تبقى هذه الدول جميعها أسواقًا للفكرة الرأسمالية، والخروج من ذلك الطوق المقيد سبيله الإنتاج وتحقيق تنمية حقيقية مفادها: لست مسيرا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.