الحساب المفضّل لديّ في مواقع التواصل الاجتماعيّ هو حسابي في فيسبوك، لكنّني منذ فترةٍ وجيزة أدركت ماذا يسلب منّي ، وأدركت أن حياتي قبله كانت أفضل كثيراً من عدة نواحي ، أهمّها الجلد على المهام حتّى إتمامها على أكمَلِ وجه ، أما الآن – مع وجوده – لا أستطيع أن أتمّ ساعةً واحدة من العمل الجاد – غالباً – إلّا و أكون قد ألقيت نظرةً أو اثنتين – ولو كانتا سريعتين – على ما جرى في ذلك العالم الأزرق ؛ الشيّق – حقيقةً – بالنسبة لي ، والذي يحتلّ جزءً كبيراً – نسبياً – في حياتي ويمنحني الكثير .
من خلال فيسبوك دخلت لرأسي الكثير من الأفكار ، وأحسست بالكثير من المشاعر ، قرأت الكثير من قصص النجاح والفشل في مجالاتٍ متعدّدة ، وتعلّمت منها ، دخلت الكثير من المجموعات المفيدة و نوادي القراءة ، وعلمت الكثير عن بعض الكتب ، تابعت المشاهير ، الذين سافروا حول العالم ووثقّوا ذلك في فيسبوك، العديد من صانعي الأفلام والمصوّرين والإعلاميين ، وفهمت أهميّة وظائفهم التي كانت بعيدةً عن مجال تفكيري كلّ البعد ! و فهمت أكثر بعض أغاني فيروز . كان فيسبوك حلقة وصلٍ بيني وبين بعض المبادرات التطوعية التي انضممت إليها ، كما كانَ سبباً في حضوري العديد من الأحداث المهمة ، المؤتمرات و ورشات العمل المختلفة والمفيدة ، والأهم من كلّ ذلك بالنسبة لي ؛ أتاح فيسبوك لي الفرصة في أن أقول – وأُحسِن التعبير – عمّا يجول في خاطري ، أكسبني الجرأة لقول ما أريد – و ربّما – في وجه من أريد بغض النظر عن رأي الآخرين فيه ، والأجمل ، أن امتدت هذه الجرأة حتّى العالم الحقيقي ، بل إنّ فوائد فيسبوك -الفكرية- تكاد لا تُعَد.
ساعات وساعات أمام شاشة الحاسوب أقرأ قصصاً كثيرة ومختلفة وأعيشها بكل تفاصيلها بعيداً عن تفاصيل حياتي |
لكن …
انجرفت لجمال كلّ ما سبق بعيداً عن كتبي الدراسية وعن عائلتي ، أصبحت أريد أفكاراً أكثر ، أكثر حتّى مما أريد إنجازه ، وأكثر مما أحتاجه . أصبحت أطرب أكثر لفيروز كلّ صباح ، أصبحت أبحث في غوغل أكثر عن إعلامٍ مفيد ، واستمع له أو أشاهده . ساعات وساعات أمام شاشة الحاسوب اقرأ قصصاً كثيرة ومختلفة وأعيشها بكل تفاصيلها ، بعيداً عن تفاصيل حياتي . كل ورشات العمل و الأحداث المهمة ، كانت تأخذ جزءً كبيراً من وقت واجباتي الدراسية والمنزلية ، حتّى أنها كانت تسلب الكثير من وقت واجباتي اتجاه نفسي ، ومع هذا لَم أستطع الابتعاد عنها ! في فيسبوك ننبهر بكلّ فكرة جديدة ، كثرة الأفكار الجديدة أصابتني بالملل ! أفكارٌ كثيرة ومدخلاتٌ مكرّرة تتدّفق باستمرار ، والعمل الجاد الهادف ؟ أقلُّ بكثير .
ماذا نريد من فيسبوك؟
أعتقد بأنّ الإجابة على هذا السؤال كفيلةٌ بأن تُرينا كم نحتاج من وقتٍ نمضيه في ذلك العالم الأزرق ومتى نسجّل الدخول ثم نسجّل الخروج ، وكيف نمضي ما بينهما . لكن ، هل نحن كبشر نستطيع أن نغضّ الطرف عن كل ما يمرّ من أمامنا عدا ما نحتاج فعلياً ؟ لا أعتقد أن ذلك يمكن أن يحصل بسهولة .
كما سبق وقلت نحن نقول ما نريد … و نسمع ما نريد أيضاً
بكبسة زرٍ واحدة نستطيع حجب كلّ من نعتبره ( غبيّ ) ، ( سخيف ) ، ( ضال ) … الخ ، نحن نستطيع حجب كلّ من لا يشبهنا فيما نريد له أن يكون ، وهذا قد يساعد شخصاً ما في الحفاظ على ما لديه من أفكار مما يؤدي لشح المخرجات الجديدة ، كما قد يساعد في تماديه بالإساءة إلى رأيٍ – أو أيديولوجية أو دين … الخ – مغايرٍ لِما يتخذه هو مسلكاً له ، فالأمر ببساطة ، حريةٌ شخصية ومنصةٌ مفتوحةٌ للجميع . إن كنتَ من مستخدمي فيسبوك فلا بدّ أنّك تعرضت يوماً لاتهامٍ بالتدخل فيما لا يعنيك ، أو بأنّك شخصٌ هجومي ، أو حتّى بأنّ كلّ ما تقوله هراء ، أو ما شابه ذلك ، إلّا إن كنت من المصفقين دوماً أصحاب الجُمَل من نفس نوع : ( كلامك سليم تماماً ) ، ( رائع ) ، ( أوافقك ) .. الخ ، تتبعها عبارات المديح الأخّاذة . لا يمكن لإنسانٍ صريحٍ مع ( نفسه ) أن ينكر أمام ( نفسه ) كم يُعجَبُ بـ ( نفسه ) عندما يرى تعليقاتٍ كثيرة من هذا القبيل ، كما لا يمكن أن ينكر – لِنفسه – امتعاضه من تعليقٍ مغايرٍ لما نشره ، أو على الأقل هذه هي ردّات الفعل الأولى للمواقف السابقة . البعض يستسلم لها ، والبعض الآخر لا .
ما الحل ؟
لا أعلم . كثيراً ما حاولت إلغاء حسابي في فيسبوك تماماً ، لكنّني لم أفعل ! لقد شقّ عليّ أن أترك كل – المصفقين ربّما – الذين يتفقون معي ، وأعود للعالم الحقيقي ، حيث الرد بِـ " لا " أقوى وقعاً وصدى ، شقّ علي أن أترك كلّ هذا الجمال وأعود للواقع حيث الأشياء المزعجة تحتاج لأكثر من "حظر" حتّى تختفي ، شقّ عليّ ترك كل هذا الكمّ الهائل من الأفكار والقضايا المطروحة للنقاش ، لتمرّ دون أن أقول رأيي ( الرائع ) فيها . كنت قد أدمنت واتسأب في السنة الأولى من الجامعة ، والفطام لمدة عام أتى بنتيجة حقيقية ، فحتّى بعد أن عدت لاستخدامه لم أفعل إلّا للضرورة . ترك فيسبوك تماماً للأبد ، ليس حلاً برأيي ، علينا بكلّ جدية مقاومة الاندفاع اتجاه ما يمر أمامنا فيه ، علينا جدياً التفكير بأسلوب – قد يختلف من شخص لآخر – للتعامل مع كلّ ما يرد فيه ، أسلوبٌ يجنّبنا سلبياته الكثيرة ، ولكن يمنحنا إيجابياته الكثيرةَ أيضاً .
أكاد أتمزق بين رغبتي بأن يسمعني أحدٌ ما ويفهمني ، وبين إعجابي المقيت بنفسي – ولو لحظياً – رغم إدراكي لحجمي الضئيل جداً بالنسبة لهذا العالم … وفيسبوك؟ يستنزفني مستغلاً هشاشتي هذه … ربّما .