عمت الفوضى أرجاء المدينة، وهرع الناس إلى بيوتهم مرتعدين، فقد دقت طبول الحرب، وأصدر الملك قراراً بسحب كل الشباب، وحتى الأطفال، إلى الجيش، وانتشر الجنود في كل نواحي المدينة يداهمون البيوت ويفتشون الأزقة، باحثين عن شاب هنا أو صبي هناك ليلحقوه بجيشهم.
وفي بيت صغير حارت الأم ماذا تفعل بيتيميها مارتن (11 سنة)، وجيو (10 سنوات)، فالقرار لا يستثنيهما، وهي ما عادت تحتمل فراقاً آخر بعد فراق زوجها.
سحب الجندي مارتن بيده وانطلق متجهاً نحو الباب، نظر مارتن خلفه نحو أمه باكياً ومودعاً لها، ثم نظر إلى السرير مندهشاً من قدرة أخيه جيو على لعب دور المختبئ بإتقان. |
أطبق الصمت في المنزل تزامناً مع دقات عنيفة على الباب، حارت في أمرها، فالبيت صغير، ولا مخابئ سرية في المنزل، زادت الدقات عنفاً، وزادت معها دقات قلب الأم والولدين خوفاً، أشارت الأم للسرير فسارع الولدان بالاختباء تحته، فتحت الباب، دخل الجندي وجال نظره أنحاء المنزل، دخل إلى الغرفة الأخرى، اقترب من السرير ..
لم يستطع مارتن كتم أنفاسه المرتعدة، اتكأ الجندي بيديه مائلاً على السرير، ومد قدمه تحته متحسساً، تحسس وجود جسم ما، يبدو أنها يد الطفل، داس عليها، كتم مارتن ألمه، داس الجندي بقوة أكبر علا معها صراخ مارتن، وانهمرت معها دموع الأم متوسلة، صرخ الجندي صرخة أخرجت مارتن من مخبئه وأوقفت أنفاس الأم..
سحب الجندي مارتن بيده وانطلق متجهاً نحو الباب، نظر مارتن خلفه نحو أمه باكياً ومودعاً لها، ثم نظر إلى السرير مندهشاً من قدرة أخيه جيو على لعب دور المختبئ بإتقان كاتماً أنفاسه ومحافظاً على أعصابه ..
في الثكنة نظر مارتن حوله فلم يجد أحداً من أقرانه، كان كل من حوله أكبر سناً منه، اتجه مارتن للغرفة التي تم تحديدها له، كان يفكر في أمه "لا شك أنها لا زالت تبكي حزناً على فراقي"، لم يجل في خاطره أنها تبكي الآن ولديها، نعم، فقد كتم جيو أنفاسه إلى الأبد، ولم يستطع قلبه احتمال الخوف الذي شعر به.
قبل ثلاث سنوات كان جيو عائداً إلى المنزل مع أبيه حين أوقفهما حاجزعسكري، كانت الحرب الباردة في أوجها حينئذ، كان إجراء عادياً.. لكن هذه المرة لم يكن كذلك، فعند تفتيش أمتعة الأب وجدوا معه كتاباً لم يهتم العسكري بمحتواه، بل اكتفى بنظرة واحدة تأكد فيها أن الكتاب كان مكتوباً بلغة العدو، رغم أن هذا الكتاب قد منع في دولة العدو وتم نفي كاتبه بتهمة الخيانة، لكن هذه المعلومات ليست ضمن اهتمامات العسكري ومن معه..
استلقى مارتن في التابوت بهدوء، كان مقاسه مناسباً تماماً له، أغمض مارتن عينيه مسترخياً وقد تعلم أول درس في هذه التجربة الطويلة القادمة… "في الحرب، لاشيء مفصل للأطفال إلا الموت |
لم يكمل الأب طريقه إلى المنزل، فقد تم احتجازه للنظر في أمره، ومنذ ذلك اليوم أصبح جيو يعاني رهبة من كل ما له شأن بالعسكر.. لم يطل احتجاز الأب كثيراً، فقد تم إعدامه بعد شهر بتهمة الخيانة.
وصل مارتن إلى غرفته، بدأ ينظر في أغراضه، قام بارتداء الملابس المخصصة له، كان البنطال طويلاً عليه، ربما يحتاج لقصه من ركبتيه، وكذلك مقاس الحذاء كان كبيراً على قدمه، أما الخوذة فلم يستطع تثبيتها على رأسه لكبر حجمها، حتى البارودة كانت أطول منه..
هنا شعر مارتن أنه وأقرانه لن يكونوا سوى وقود للحرب القادمة، نظر مارتن لزاوية الغرفة فرأى تابوتاً مسنداً إلى الحائط، قام بخلع الخوذة ووضعها جانباً، أمسك التابوت الخشبي ووضعه على الأرض، استلقى مارتن في التابوت بهدوء، كان مقاسه مناسباً تماماً له، أغمض مارتن عينيه مسترخياً وقد تعلم أول درس في هذه التجربة الطويلة القادمة… "في الحرب، لاشيء مفصل للأطفال إلا الموت ..".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.