الغربة هي ذلك الخليط الهلامي الذي يتشكل حسب قالب كل شخص ذاق الاغتراب، ففي هذا الخليط تجتمع كل المشاعر المتناقضة من الحب والبغضاء ومن شوق إلى حضن الوطن والخوف من الجفاء بسبب البعد أو ربما لا يتعرف عليك لأن السنين غيرتك، وهنا تكون الفاجعة عندما تكتشف أنك بسبب غربتك غدوت منفيا في وطنك.
عندما شاء لي القدر الاغتراب، لم أبحث بعيني عن ناطحات السحاب أو تكنولوجيا حديثة، ربما لأني سئمت رؤية أخبارها على شاشات الإعلام المختلفة، ولكن كنت أبحث عن سِر الإنسان الذي أصبح في مقدمة العالم، وأردت بشغف مدى انعكاس أثره في بنية المغترب العربي الذي ولا بد سيحمل خلاصة خبراته إلى أوطاننا حتى نلحق بهم. كنت كطفلة تتطلع بشغف أن تشهد مراحل تطور الفرد العربي في بلد الحريات والديمقراطية والتكنولوجيا وبعيدا عن كل الأحوال الجوية السيئة التي تخيم على عالمنا العربي فلم نر فيه ربيعا يزهر عن ثورة علمية تضعنا ضمن خريطة دول التقدم المعروفة، ولكن يجب أن نحمد الله دوما أننا بكل جدارة مازلنا نحافظ مع السنين على رتبتنا كعالم ثالث.
كنت أتطلع أن أرى العربي المغترب في شرنقته يتطور ولو ببطء، المهم أنه يتطور، إلى أن أتفاجأ بألوان الفراشة الجميلة تنبثق من تلك الشرنقة. لكن بدايتي لم تكن موفقة مع أول شرنقة راقبتها عن كثب، لأنه لم تنبثق منها فراشة جميلة بل خرج دبور لسعني وأيقظني من حلم اليقظة، وأثبت لي أن نظرية نيوتن عن رد الفعل لا تنطبق على المواد فحسب بل أيضا على الإنسانية العربية، فهناك أناس رغم قوة التطور والحضارة التي تحيطهم من كل الجوانب إلا أن لديهم قوة غريبة على مقاومة الجاذبية والتقدم لكن إلى الخلف، على عكس ما عهدته في أصعب ظروف مجتمعنا العربي التي تنتج شخصيات مُبدعة ومن رحم الألم.
كانت أول لطمة تلقيتها عندما سألت طفلة جميلة بعمر خمس سنوات: ماذا ستصبحين في المستقبل؟ فردت: عندما يصبح عمري 18 عاما سأتزوج
في أولى سنوات الاغتراب قابلت أناسا يرفضون التطور ليس بالشكل العلني ولكن لم تغير فيهم الغربة خلال عشرين سنة مضت قيد أنملة، والجيل الجديد الذي خرج من تحت أيديهم يختلف عنهم فقط بشيء بسيط وهو إجادته اللغة الألمانية المعجونة بالعربية المكسرة، وأكبر قدوة لهذا الجيل هو أحد نجوم سوبر ستار أو ستار أكاديمي، برامج الهواة التي كانت موضة ذلك الوقت، حيث يتابعونهم بحرص شديد ويقلدونهم باللباس والحركات وحتى الأحلام.
كانت أول لطمة تلقيتها في رحلة البحث عن شرنقات يافعة عندما سألت طفلة جميلة بعمر خمس سنوات: ماذا ستصبحين في المستقبل؟ فردت علي بكل ثقة: عندما يصبح عمري ثمانية عشر عاما سأتزوج. صحوت على وقع اللطمة وابتسمت مهدئة نفسي بأنها ربما أضغاث أحلام، فقررت أن أسأل أخرى أكبر منها عمرا (وأنتِ يا حلوة؟) لترد علي: أنا إن أكملت تعليمي الإعدادي قد أصبح مصففة شعر، لم أيأس طبعا، فسألت طفلة أخرى وردت علي بأنها ستصبح مثل هانا مونتانا مشهورة.
هذه الإجابات زادت من تصميمي لمعرفة سر هروب هذه الفئة إلى الخلف في واحدة من أكبر الدول الصناعية في العالم، على الأقل لا يجب أن يتأثر هؤلاء الناس بمبدأ سيكولوجية الجماهير وتتطور رؤيتهم المعرفية والفكرية، أو على الأقل أن يثبت فيهم مثَل جدتي الذي كنت اعتبره انهزاميا في بلادنا والذي يقول (حط راسك بين هالروس وقول يا قطاعين الروس). ففي بلادنا العربية وفي أفقر حواريه قد تلتقي طفلا يلهو بلعبته المفضلة والوحيدة وهي ملاحقة إطار سيارة قديم وقد توشّح وجهه وملابسه بالسواد فتسأله عن حلمه المستقبلي فينقشع عن سواد وجهه شروقا يضيء قلبك بالأمل بأنه يحلم أن يصبح طبيباً أو طياراً أو مهندساً يصنع سيارة.
ولكن، وهنا في ألمانيا وأطفالها يعيشون نعيم الفرص المفتوحة بلا مقابل يذكر أو يثقل على كاهل أهاليهم، تجد سقف أحلام بعض أطفال العرب لا يتعدى المرحلة الإعدادية، علماً بأنه لا توجد أي معوقات من الجانب الألماني لتطورهم، وأنهم لا ينتظرون من الألمان سوى المال والحوافز وتركهم وشأنهم.
عندما يئست من انتظار الفراشة الملونة قررت أن أبادر في تلوينها داخل شرنقتها، وأن أرسم بنفسي لهذا الجيل الضائع طريق النور ، وأن أفتح أبواب عقولهم على جنة أخرى أشد جمالاً من عالم السوبر ستار، مثل جنة الكتب وما تحويه من قصص ومعارف غيرت وجه العالم، في الوقت ذاته كان الفتية الألمان يقفون طوابير أمام المكتبات لينتزعوا نسختهم الأولى من الجزء الرابع من سلسلة هاري بوتر الشهيرة، ولكن وأسفاه تمت حربي من أهالي هذا الجيل وأتهمت بأني صبأتُ عقول أطفالهم بفكر لا يناسب أفكارهم وحياتهم، فكان خيارهم إما أن أتبع أهوائهم بهدوء أو أن أتركهم وشأنهم..
كأن الله لا يريد أن يغيرنا، فوجدت نفسي بين أناس من بني جلدتي اتخذوا من الدينار آلهة لهم، ويئدون المعرفة بلا رحمة
صدمتي في بداية الغربة كانت أكبر من أن يتحمله ربيعي العشرين الغض الذي أردت أن أصقله بتجارب أناس مثلي مروا من نفس الطريق قبل عشرات السنين، ولكني كنت لهم كمن أتى بدين جديد، وأتذكر تلك اللحظات الحزينة عندما تحدثت إلى والدي عبر سلك الهاتف وأنا أبكي وأقول له (قُلت لي.. ستجدين عرباً جددا يؤمنون بالعلم والديمقراطية ويحترمون الإبداع والفكر، وطلبت مني ألا أعود ببنيان وعمارات بل بعلم يشيح عن بلادنا غمامة التخلف، وكأن الله لا يريد أن يغيرنا، فوجدت نفسي بين أناس من بني جلدتي اتخذوا من الدينار آلهة لهم ويئدون المعرفة بلا رحمة، فماذا أفعل؟)
قال لي والدي: ماذا فعل رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم عندما حاربه أهله؟ فأجبته بحزن: هاجر!، رد علي والدي: الهجرة إلى عالم آخر تطورين بينهم نفسك وتتركين بين أيديهم ذكرى يشكرون بها حضارة كاملة بسببك.
خيبة أملي الكبيرة دفعتني إلي الاعتزال عن من جمعتني معهم اللغة والحضارة ودفعتني إلى الغوص في بحر المجتمع الألماني الذين وجدوا مني مادة ثرية للتعرف على الحضارة التي لا يعرفون عنها سوى أنهم مازالوا يمتطون الجمال ويسكنون الخيام ويضطهدون النساء ولا يفكون الحرف، فأصبحت أنا الشرنقة التي خرجت لهم عن فراشة أدهشتهم وأشهدتهم على سطحية معرفتهم رغم تقدمهم.
ولكن لم يفارقني ذلك الشغف في أن أشهد تطور الإنسان العربي فرحلت إلى مدينة أخرى، يتباين فيها السكان من الجالية العربية بشكل ملحوظ، فهناك أكاديميون ومهنيون وتجار وغيرهم، وراقبت انبثاق شرانقهم عن أشكال كثيرة، فمنهم من يغتنم كل فرصة ليتطور ويحمل في أحشائه حلم العودة إلى الوطن ، ومنهم من كّرس حياته ركضاً وراء المال وتكديسه في بنيان، ومنهم من كفر بأصله وأصبح عدواً يحارب عروبته بلسان ألماني، ومنهم مازال يحمل ندوباً خلفتها سياط وطنه، ومنهم من آمن أن العلم في الغربة وطن.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.