رنَّ موبايلي في الساعة الحادية عشر والنصف مساء، كان الرقم مجهولا، كعادتي لا أرفض أي اتصال..
– (هفال) أحمد..
– أهلا (هفال) نعم أحمد الزاويتي..
– (هفال) سينان معك..
– من؟!
– سينان.. سينان.. التقينا سابقا في الجبال.. مع (هفال) باهوز..
– أهلا سينان كيف الحال؟ سعدت بسماع صوتك..
– هل وضعك مساعد الآن للحديث..
يا ترى هل سنتعرض للقصف؟ نحن في مكان فيه باهوز آردال مسؤول العمليات المسلحة داخل تركيا، المطلوب الأول لديها، كنت أحاول دفع الهواجس لأدرك قسطا من النوم. |
كنت جالسا في مقهى، وسط آخرين معي، بعضهم من عائلتي وبعضهم ممن كان قد جاء لاستقبالي في إجازتي، تركتهم لأركز مع سينان الذي قال حاول أن تكون في مكان تستطيع فيه الحديث، حيث سيأتيك اتصال مهم..
لم أعد لكرسي الذي تركته، حاولت أتمشى في الرصيف الموازي للمقهى، فكرت في الذي سيتصل؟ ولماذا بي؟ ولماذا هذا الوقت؟
سينان الذي سبق وأن التقينا في منطقة الزاب بالجبال مع باهوز آردال؟!! أحاول أتذكره، أتذكر الزاب، قمة الجبال الحدودية بين العراق وتركيا، بالتحديد جبل متين، هناك في حزيران عام 2013، عندما كان باهوز يشرف على انسحاب مقاتلي حزب العمال الكردستاني من تركيا إلى مواقع الحزب في العراق، استجابة لدعوة وجهها عبدالله اوجلان زعيم الحزب في سجن بجزيرة أميرالي بتركيا منذ عام 1999، وذلك تمهيدا لحل المشكلة الكردية في تركيا بالطرق السلمية، بعد أن غطينا هذا الانسحاب كان لدينا موعد مع باهوز لتسجيل حلقة لبرنامج لقاء اليوم معه للجزيرة..
تذكرت ذلك اليوم، بِتُ ليلتي هناك في الجبل معهم، نمت داخل كيس من البلاستيك، كنت أخشى البرد وقته، أخشى كذلك دخول حيوان زاحف، حشرة، حية، عقرب، ظلام الليل وصرصرة جو الجبل كثرت من هواجسي، أصوات طائرات المراقبة التركية كذلك..
يا ترى هل سنتعرض للقصف؟ نحن في مكان فيه باهوز آردال مسؤول العمليات المسلحة داخل تركيا، المطلوب الأول لديها، كنت أحاول دفع الهواجس لأدرك قسطا من النوم، فقد أهلكنا التعب طوال النهار الذي لم نتوقف فيه لا ركوبا في السيارات، عندما كانت ترقص بنا رقصا في عربتها الخلفية، جعلتنا نشترك ذلك الرقص الجنوني الصاخب، عند سيرها على الصخور والحفر..
لم نتوقف حتى مشيا بعد ذلك، ووصولنا إلى هنا، أشعر بأثقال لا تزال تثقل عضلات فخذي، ركبتاي وكأنها ليستا لرجل في منتصف الأربعينيات، في قوة نضوجه، تذكرت قريبتي المسنة في الستينيات الحاجة خالدة عندما كانت تصعد درجات بيتها كيف كانت تتعرج يمنة ويسرة ماسكة بيديها ركبتيها، وكأنها تكاد أن تقع، مصابة بالسوفان في ركبتيها.
كذلك عندما كنت طوال اليوم أتنقل في أنحاء جبل متين للوصول إلى باهوز، قدماي في كيس البلاستيك كانتا تتألمان وجعا من صعود الصخور والطرقات والجبال، من الانخفاضات والارتفاعات، شعرت بكل ذلك عندما حاولت دفع هواجس الخشية من قصف الطائرات التركية..
كيف لها أن تقصف ولا قتال الآن؟ الآن مسلحو حزب العمال ينسحبون برغبة تركية، وضمن جهود لحل سلمي، لا يعقل أن يحدث أي قصف هنا..
حاول أن تنام إذن.. حتى ولو كان مجرد التظاهر، فربما سيكون أمامك يوم آخر صعب، لا تدري..
أنهيت أذكار المساء.. بعض التسبيحات.. ما أحفظ من سور من القرآن.. تذكير بالعائلة، بالأولاد.. لا تنتهي.. لا تنتهي.. ولا يأتي النوم.. خاصة شرشرة جدول الماء القريب، وبعض الأصوات تتحدث مع بعضها، غالبيتها أصوات مسلحي حزب العمال، رجال ونساء، من كُرد تركيا وكُرد سوريا، أصوات أصبحت جزءا من أصوات هذه الجبال..
يصلني إلى داخل كيسي البلاستيكي صوت مصوري محمد ملا، ذلك الذي تعودت على ترنيمة صوته الناعم منذ عشر سنوات من العمل، يتحدث بلهجة أربيل وهي تختلف عن لهجة مسلحي حزب العمال، وعن لهجتي ايضا، أكاد أكون أنا الوسط بين الطرفين..
تركت الكيس وذهبت لذلك النار المشتعل لاشم المزيد من دخانه ممدا يدي عليها، أتحدث بعيون ملئى بالدخان مع زميلي المصور الذي لم يحاول اصلا ان ينام، ونشرب أكواب الشاي على جمرات النار، فهو الامر الوحيد الذي يمكننا فعله في هذا الوقت، لانني لم أكن أدخن والدخان هناك في الليل له متعته، خاصة عندما كانت نظراتي تلتقي مع مسلحٍ واقف في مكانه وهو يشرب شربات من دخان كانت تجعل قمة سيجارته كتلة من نار في ظلام الليل..
يا ترى من سيكون المتصل؟
هل يعقل أن يكون باهوز نفسه؟ ألم تعلن وكالة الأناضول التركية عن مقتله في هجوم بسورية قبل أربعة ايام، في التاسع من تموز بالضبط؟!
لكن نفى الحزب مقتله في وقته، ولم يتم نشره إعلاميا، باعتبار النفي لم يكن رسميا، نعم لم يكن النفي رسميا، وذلك لأن الحزب لا يريد أن يشغل نفسه بتأكيد أو نفي الخبر، وربما يبتغي من وراء ذلك أن يربك الإعلام المضاد له خاصة إذا تأكد الحزب بأن الخبر أصلا غير صحيح!
وحصل هذا سابقا في مرات عدة عندما أعلن الإعلام التركي عن مقتل مراد قرايلان الشخص الأول في الحزب في وقته بعد زعيمه المعتقل، ومن ثم خرج قرايلان بعد فترة على الملأ بكامل صحته وقوته وعلى رأس عمله، حدث هذا مع باهوز نفسه حيث قتل في كوباني وتل أبيض في مناسبات متفرقة على نفس الطريقة، ولم لا يكون هذه المرة كذلك؟
في كل مرة كانت تتطور الأمور سواء من حرب أو تطورات في مسار الحل السلمي ووقف القتال وما شابه، كنت ألتقي بباهوز آردال في ظروف مختلفة. |
دقائق مرت، لا زلت أتمشى في الشارع الموازي للمقهى، نظرت لشاشة موبايلي كانت تشير إلى ربع ساعة باقية لمنتصف الليل، عندما جاءني الاتصال من الرقم نفسه..
– أهلا (هفال) أحمد..
– أهلا هفال..
إذن ليس غريبا عني، هو باهوز نفسه، كأنه يتحدث مع من يعرفه منذ سنين، فعلا أعرفه منذ عشر سنوات، تكررت لقاءاتنا كثيرا أولا في فلمي الوثائقي "دولة الجبل" الذي بث في الجزيرة عام 2006، حيث تحدث في الفلم، في اجتياح الجيش التركي لمواقع داخل كردستان العراق سنة 2008.
حينها خصني بصور لأسرى من الجيش التركي لديهم، في آذار ذلك العام عندما أعلنوا عن إسقاط مروحية تركية ذهبت ماشيا لأقطع جبالا وودايانا وأنهارا وأصل مع مصوري الآخر صلاح دوسكي وبعد مشي لمدة 36 ساعة، نهارين وليلتين، نصل إلى هناك لأصور بقايا الطائرة وأتحدث للكاميرا من أمام ركامها، وبعدها أيضا تعددت المقابلات في، 2009، 2011، 2012، وفی 2003 حيث بث برنامج لقاء اليوم معه على الجزيرة في 22،حزيران.
وفي كل مرة كانت تتطور الأمور سواء من حرب أو تطورات في مسار الحل السلمي ووقف القتال وما شابه، كنا نلتقي في ظروف مختلفة..
مر كل ذلك الشريط سريعا أمام عيني ويتحدث باهوز معي سائلا عن أحوالي، وبادرته كيف حالك ألم تقتل؟!
ضحك كثيرا وقال..
– (هفال) أحمد .. هي حرب دعائية ضدنا..
– هل استهدفت ولم تقتل؟
– لا.. لم يحدث شيء أصلا..
– هل ممكن نلتقي مستقبلا..
– متى تريد يمكننا اللقاء..
– أين أنت..؟
– ليس مهما أين أنا.. في الوقت الذي تريد يمكننا اللقاء..
___
تستمر القصة..
الجزء 2.. ردود الأفعال التركية والكردية والعربية، الإعلامية والرسمية…