شعار قسم مدونات

حقائب فارغة.. حقيبة (١)

A man wheels a suitcase past a one way sign in London January 24, 2014. REUTERS/Luke MacGregor (BRITAIN - Tags: TRAVEL SOCIETY)

"اكتب مقالاً مرتجلاً في أي موضوع شئت". كانت هذه الكلمات المتحررة هي ما فاجأني به الأستاذ محمد أمجد المحرر الأول في قسم الثقافة بإحدى الصحف القطرية، خلال أول لقاء جمعني به في مكتبه إثر تقدمي بطلب للتوظيف الجزئي بعد أن نخر سوس البطالة عظمي وجيبي.
 

أذكر أن تلك الكلمات -رغم تحررها الظاهر من قيود الحصر- كانت كفيلة بأن ترمي بي مقيدا في بحر من الأفكار المتلاطمة.. أطرقت لبرهة من الوقت، فوجدتني تائها في دوامة من العناوين، كلما لاحت لي فكرة أتت أخرى لتنأى بي بعيدا عنها.. ولعل تلك الحرية التي مُنحت لي هي السبب في ذلك، فنحن لم نعتد بعد على رفاهية الاختيار وإن كانت في مفهومها الضيق.
 

تعلمنا منذ نعومة أفكارنا أن التحرر ذنب، وأن الذنب يورث النار ويوجب العقاب.. تعلمنا أن الحرية شيطانة ساحرة، تظهر للناس – حين اغترار- في هيئة شابة حسناء، ما إن يقترب منها أحدهم حتى تستحيل ثعباناً أقرع يلتف حول عنقه فيرديه غير مأسوف عليه.
 

تعلمنا الكثير الكثير عن تلك الفتنة المهلكة حتى اكتسبت أدمغتنا مع مرور الوقت مناعة واقية ومضادة لكل أنواعها. (ونون المتكلمين هنا أحتفظ بتفسيرها لنفسي، استكمالا لإرشادات الوقاية).

ولعل الأستاذ محمد تفطن لحالة الارتباك التي كنت فيها، فبادر بطرح فكرة لتكون طوق نجاة، فاقترح موضوعاً للمقال، لكنه – ومن حيث لا يدري – انتشلني من بحر عميق متلاطم الأمواج ليلقي بي في آخر أعمق منه وأشد تلاطما.. ففكرة أن أكتب عن الذات والوطن والغربة أشد علي وقعاً من الغرق في البطالة نفسها.
 

لم يكن أمامي بد من خوض ذلك الاختبار.. استللت قلمي ببطء.. كفارس هرم يستل سيفه الصدئ من غمده، وقد رام نزالا لا قبل له به.

كيف ومن أين سأبدأ الحديث عن ذاتي، ووطني.. كيف أكتب عن رحلة اغترابي؟ وأنا الذي أحمل غربتي على كتفي معي أنى ارتحلت، كحقيبة تاجر الأحجار الكريمة، أينما حل فتحها ليستعرض ما فيها من عتيق ونفيس، فإن لم يجد من يسُومها، اكتفى بمسحها وتلميعها والنظر إليها بعطف، قبل إعادتها إلى الحقيبة معزيا نفسه بأنه سيجد يوماً من يقدر ثمنها مثله.

قطر، حيث يتماهي إكسسوار الحداثة مع حِنّاء الأصالة، مثلما تتماهي أمواج الخليج مع الكثبان الرملية

لماذا؟.. وبماذا؟.. وكيف أكتب عن غربتي وحياتي كلها غربة؟

أسئلة ثار ضجيجها داخلي، ليحيلني إلى ذلك المشهد: صفير تصدره آلة كهربائية يستخدمها عمال آسيويون بالقرب من مدخل قاعة الكندي في ذلك اليوم.. كانت تلك أول محاضرة لي بعد التحاقي بكلية الآداب والعلوم بجامعة قطر.
 

قطر التي توقفت بي عندها عجلة النرد، قبل أن تتابع الأقدار مسيرة التطواف.. قطر، حيث يتماهي إكسسوار الحداثة مع حِنّاء الأصالة، مثلما تتماهي أمواج الخليج مع الكثبان الرملية، وتتعالق في سمائها زخات العطور الباريسية مع خيوط البخور.. هي في نظري كشابة مزهوة بفستانها العصري تنطلق مسرعة نحو حفل "الهيب هوب"، بينما تجذبها جدتها من أطراف شعرها عند الباب، لا لتثنيها عن المضي بل لتجدل ما تناثر من خصلاتها التي تلهث خلفها، كي تبدوَ أكثر وقارا واتزانا في محفل الرقص!
 

بهدوء الواثق، وحذر المستكشف وأدب الغريب، دخلت إلى القاعة بعد أن استعنت بأحد حراس أمن الجامعة ليرشدني إليها، كانت القاعة على شكل مسرح صغير كأنه شلال من المقاعد الحمر ينحدر صوب منصة خشبية مستطيلة الشكل خُصصت للمحاضِر.. اتخذت مكاناً مرتفعا في أقصى اليمين من المدرج.. لم ألبث طويلاً حتى جلس إلى جانبي شاب قطري ممتلئ الجسم، تفوح منه رائحة العود المميزة.. تأخر الدكتور المُحاضر لعشر دقائق كانت كافية لتجعل "فرج" يفتح معي حواراً جانبياً بحجة التعارف.
 

بعد وابل من الأسئلة، وبعد أن عجزت فراسته عن فك طلاسم ملامحي المنهكة، بادرني بالسؤال والفضول يملأ عينيه: من أي بلد أنت؟
 

عادت سفينتي لترسو في بلدي من جديد، بعد أن نفد ما كان في جعبتي من مال وصبر، ولم أبلغ مبتغاي

بعد أربعة أعوام أمضيتها في شمال بريطانيا متنقلاً من مدينة إلى أخرى، في رحلة منهكة كان مرامها طلب العلم ومآرب أخرى، عادت سفينتي لترسو في بلدي من جديد، بعد أن نفد ما كان في جعبتي من مال، وصبر، ولم أبلغ مبتغاي.. وبعد أن ضقتُ ذرعاً بتلك الكتب والمؤلفات والرسائل والقواميس اللاتينية، ضقت بمنطق أرسطو، ومثالية أفلاطون، وأخلاقيات كانط، وجدل هيجل، وعقد هوبز، ونقد جون لوك، وعنتريات نيتشه، وسوناتا شيكسبير، وتطور داروين، وأوهام دوكينز.
 

ضقت ذرعاً بتلك الكتب وبخبز التوست ورائحة البُن وشاي المساء وموسيقى البيتلز، وبأولئك الشقر المهذبين، وبتلك العيون الخضر والوجوه الصُهب وبالنظام والهدوء واللباقة، وبذلك الطقس البارد الذي يجري ببطء في عروق أهل تلك البلاد مؤثراً في كل تعاملاتهم ومشاعرهم وردود أفعالهم.
 

عدت وقد تقمصني الحنين إلى أولئك السمر، و تلك السحنات القمحية التي تمتزج بلون الأرض وأصباغ المنازل القديمة لتشكل لوحات فخَارية دافئة تذيب جليد الاغتراب.. اشتقت إلى تلك الصيحات ومزامير السيارات! اشتقت إلى تلك التحايا والضحكات العالية التي تشعرني بالحياة، اشتقت إلى الفوضى التي تعم كل شيء.
 

كنت سعيداً بعودتي.. وكان كل شيء يرحب بي على طريقته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.