شعار قسم مدونات

كيف جعلوا منّا عبيداً للقمة العيش؟

blogs - money

أنا العربيّ السيئ الحظ، الكادح في عزّ الرأسمالية، المضطهد السياسي، ممنوع التأشيرة في الغالب، تعس الملامح، متوترالطابع، عصبي المزاج، كومبارس الخبر.. أهلا بكم.

أترغبون بكوبٍ من القهوة؟ خالي السّكّر.. إنه اليوم الثلاثين من الشهر.. ولكن لاعليكم، غدا في الشهر الجديد سوف أبدأ حياةً كريمة. سوف أشتري المؤونة، الخبز و الأرزّ و اللبن و الشاي و السكر.. غدا سوف أسرف في السكر، وربما، لمجرد الرفاهية البحتة، اشتريت قميصا غير محسوب الميزانية بعشرة دولارات دفعةً واحدة!.

كان حلمي أن “أستكشف العالم” قارّة قارة، و أن أرى بلاد الله الواسعة، وأن أزور الشعوب البعيدة بكل ما أملك من رياء عن بلادي العريقة. كبرت و ظل حلمي حلما.

في أول الشهر، أتنفس الصعداء كأنني ولدت من جديد.
أول الشهر يا أصدقاء هو يوم الرفاهية المطلقة، أشتري فيه جميع حقوقي من مأكل و ملبس. أدفع فواتير السكن، والمياه المقطوعة، والكهرباء المتكبّرة،  الأنترنت الرديء. أسدد قرض البنك، و أحضرالسمكري ليصلح الصنبور المهترئ.. و قد أخرج مع أصدقائي لتناول الشاورما. أول الشهر أشبع جميع هذه الرغبات المترفة.

أنا العربيّ السيئ الحظ، أفكّر بالذهاب في رحلة بعيدة في أول الشهر، إلى السوق، أشتري ما أجده بخيس الثمن.. أنا لا أشتري ما هو غالي الثمن نسبياً.

أمنيتي كاميرا ذات جودة، تلك التي تجعل الألوان تبدو أكثر إبهارا وشغفا، ولكنني قلت لكم، عليّ تأمين المؤونة في أول الشهر وأيضاً فإنني رغم شيب رأسي ما زلت أسدد قروض الجامعة.. حتى شهادتي لم ترأف بحالي، ما زالت تذكرني بين اليوم والآخر، "يا عمّي ، كيف تجرؤ على التفكير بذلك؟ دراسات عليا مرّة واحدة؟"، أعلم أنها على حق، و لكن، ما أضيق العيش لولا فسحة الخيال.

في صغري كان العالم مجرد خارطة ملونة، ليس فيها حواجز ولا جوازات سفر ولا حسابات بنكية.. ظننت عالم الأرض قطعة واحدة، حارات نذهب إليها كما نذهب إلى عملنا صباحا في سيارة الأجرة.

رغم تعبي و عرقي و كدي.. الحدّ الأدنى للأجور.. كان حلمي أن “أستكشف العالم” قارّة قارة، و أن أرى بلاد الله الواسعة، وأن أزور الشعوب البعيدة بكل ما أملك من رياء عن بلادي العريقة. كبرت و ظل حلمي حلما.. أنا لا املك ثمن التذكرة.

مسؤول المصنع، الذي يركب المرسيدس، و يمضي العقود، و يلتقي بأصحاب النفوذ، و يملي علينا ساعات العمل، يذكرنا كل يوم، بارك الله فيه، كيف أننا حقا نتمتع بحقوقنا وأكثر، فنحن نقبض من المال ما يسترحالنا ويبقينا على قيد الحياة، ونملك ما يتمناه غيرنا، وننال يوم عطلة أسبوعي كامل، و لا نعاني أية أمراض قلبية. يقول بمصداقية غير مسبوقة أننا لن نجد فرصة أفضل مما نملك، و أن الظروف لا تسمح له بزيادة دولار واحد على الرّاتب.

نستيقظ في الصباح مع عقدة في الجبين، نمضي إلى ما نكره، نناضل و يمضي العمر، لأجل الرغيف و السّكر.

قال لي يوما أنني مدلل، قال لي أنه ينبغي لي أن أكون شاكرا لما له من فضل عليّ، ألا يكفي أنني أعمل و أتقاضى الراتب؟ ألا تكفيني كلّ هذه النعمة؟ قال إنني كثير الشكوى. نعم، أنا كذلك. ربما عليّ أن أسكت.

أشعر، و الله أعلم، أنني تعبت من هذه المشقة ما زلت مذهولا بحالي، يا إلهي، كيف جعلوا منّا عبيدا للقمة العيش؟

لحظة، لديّ شعورٌ دخيل. أشعر أنني رخيص، و أن كل من حولي ينظر اليّ بازدراء، كل من حولي ثمنه دولارات خضراء،  أنا وحدي أصفر شاحبا، لست أدري من أين تأتي هذه الأفكار.. ما علينا.

لن أطيل عليكم هذا الحديث الفارغ، فأنا واثق من أنكم خضتموه من قبل عشرات المرات. أنا واثق أيضا من قدرتنا على الكلام، وأعلم جيدا كيف نتسابق على لقب الحياة الأتعس… و أعلم أننا لن نفعل شيئا، وأننا سوف نستمر بهذه الوظيفة غير المجدية: نتقاضى أبخس الأثمان، ونعيش بأغلى الأسعار، نستيقظ في الصباح مع عقدة في الجبين، نمضي إلى ما نكره، نناضل و يمضي العمر، لأجل الرغيف و السّكر.

أنا أعلم أن الأجيال القادمة، قبل أن تقيانا، سوف تبغضنا، وسوف تقول لنا: لماذا لم تتصرّفوا فبل فوات الأوان؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.