شعار قسم مدونات

اليتيمة هي تدوينتي الأولى

blogs - ref
لا أنكر أني قلبتُ صفحات خواطري، ملاحقاً العنوان الذي سوف تنسدل تحته تدوينتي الأولى، وكعادتها تطل مضيئة تشق صفوف أفكاري بجدائلها المرخاة على عاتقيها، مرصعة بالشهداء كأميرة ينحني لجلالها كل ما سواها، وتهمس بثقة: ها أنا ذا وصلت.

إنها اليتيمة ابنة الست سنوات، إنها ثورتنا، جدلية الحياة والموت، والقضية الكبرى التي باتت تتربع على عرش اهتماماتنا. سفينة النجاة التي حملت ثلة المؤمنين الأولى من ثوار 2011، وعصمتهم من الغرق في حضيض الخنوع. أولئك الذين أذكرهم جميعا بأسمائهم ووجوههم، وابتساماتهم وجراحهم، أولئك الذين غمرهم عنفوان التكبيرة الأولى، وتملكهم كبرياء المظاهرة الأولى، لازال صدى هتافهم يتردد في أعماقي بصوت حناجر بات أكثر أصحابها اليوم في زمرة الشهداء.

فخرٌ كبير ذاك حين تُلقىَ عليك حُلة المجد وتنال وسام العزة كثائرٍ، لتكون عيناً تقابل مخرز الطاغية بلا خوف فتكسره. طاغيةٌ أغضبته هتافاتنا حد الجنون، وهي تعري فرعونيته وتهدم صنميته، لتتركه قزماً يرعبه الموت، سحقاً تحت أقدامنا، ليهرع من فوره مذعوراً مستنجداً بجيشه، "العقائدي الباسل" الذي يشحذ سيفه منذ خمسين عاماً، متغنياً بتحرير فلسطين. وإذ بمعركته الأولى والوحيدة تكون مع شعبه.

كم كان حاراً دم أول شهيدٍ ارتقى على عتبات مسجد سعد في ذات جمعة ثورية، مشينا وراءه طويلاً وطيرٌ خضرٌ تمضي به إلى قنديله المعلق تحت العرش، بينما سنعود نحن لنكمل معركتنا مع قرصان الممانعة والمقاومة المزعومة، كان من الواضح أنه لابد من البندقية، فهدير هتافاتنا العزلاء لم يكن كافيا لمحو عارٍ تلطخنا به خمسين عاماً. رشقات رصاص ليليةٍ متقطعةٍ هنا وهناك، تشي بقلة ذخيرتنا، وتشهد أننا أحرقنا مراكبنا، واخترنا اللا رجعة.

سوداويةٌ هي لحظة وقوعك بيد زبانية السفاح على حاجزٍ "أمني"، وأنت عائدٌ من مهمةٍ ثوريةٍ لم يكن ولأول مرةٍ الشهيد رائد برفقتك. تتقاذفك حينها أمواج التوقعات القاتمة عن مصيرك المحتوم، وخاصة إذا كنت أمضيت ليلتك التي سبقت اعتقالك تصور بهاتفك المحمول "المعتقل هو الآخر عند المحقق" أول تجربةٍ موفقةٍ لتفجيرعبوةٍ ناسفةٍ، وصوت تكبيرك فرحاً بنجاح التجربة، يمتزج بصوت الشهيد أبي أيمن رام وابتسامته تكاد تظهر شامخةً كوشمٍ على جبينك، تشعر لوهلةٍ أن المحقق سوف يراها وبريق الفرح في عينيكما يكاد يظهر في ثنايا المقطع القاتل.
 

تخرج ليلا من القبر المسمى "فرع أمن" كعائد للحياة، نُفخت فيك الروح بعد أن غرز الموت فيكَ نابه، فتمسح بيد الشفاء جراحك، فتخرج بيضاء لم يمسسها سوء.

تعيدك إلى وعيك لحظة وصولك إلى أحد أقبية التحقيق التي تملأ كل زوايا الوطن، وهناك ترى كل ما لا تستطيع احتماله، وتسمع كل ما يهشم بقايا قلبك، لتسحل بعدها وتلقى في زنزانة معتمةٍ مع شركاء المجد والألم، فتنسى عذاباتك حين ترى عنفوانهم الثوري لم يتغير، وشموخهم لم ينكسر بعد كل ما ذاقوه من مرارة انتزاع اعترافهم أن ثورة كرامتهم جرم. وترى بصماتهم ممزوجةً بقطرات الدم المتناثرة على جدران السجن بعد حفلة تعذيب بأيدي "حماة الوطن". 


لم تعترف بشيء؟ ولم يفتشوا هاتفك؟ لعلك ستنجو! همسها في أذني رفيق السجن قيس، فحركت عندي الأمل بأن أسوء ما أخشاه لن يحدث، لن تبكي أمي قهرا لأن جثة باردة ستوضع أمامها مسجاة، ويقال لها هذا ولدك. وفعلا صدق حدسُ قيس. حافيا تخرج ليلا من القبر المسمى زوراً "فرع أمن" كعائد إلى الحياة، نُفخت فيك الروح بعد أن غرز الموت فيكَ نابه، نسمات حريةٍ تَمُّر بك فتمسح بيد الشفاء جراحك، فتخرج بيضاء لم يمسسها سوء. 
 

حماسة صوت الشهيد "أبي الحسن خضراء" مباركاً لك نجاتك من براثن عتاولة السفاح، تؤكد أن غزوةً قريبةً تلوح في مقلتيه خطط لها مع الشهيد "أبي نجيب" أشجع من رأيت، هو فقط ينتظر منك الإذن للبدء، لأنه كان كما يعرفه الجميع، الرجل الذي لا ينام، يشهد لذلك سيارته المهشمة لكثرة سِناتِ النوم التي غدرته وهو يقودها مسرعاً على طرقات الحرية صامداً، بقي كذلك حتى لحظة انعتاقه ومعراج روحه إلى قنديلها في إحدى معارك الشرف.
 

إن من احتل مدينتي اليوم هو ذاته الذي باع الجولان لمن يحتل القدس اليوم ويشرد شعبها.

مغادرين تركنا مدينتنا وأصابع أرواحنا تتشبث بجدرانها، تأبى الرحيل بعدما سالت كل مداخلها والطرقات المؤدية إليها بالدبابات وناقلات الجنود، حتى ظننا لوهلة أنها القدس التي وعدونا يوماً على مقاعد الدراسة أنهم يُعِدون العُدة لتحريرها. لكن الحقيقة المرة أن من احتل مدينتي يومها هو ذاته دعي المقاومة والممانعة، الذي باع الجولان لمن يحتل القدس اليوم ويشرد شعبها، لكن المدينة الخضراء اليوم بعد أربع سنوات رغم أنفه محررة.

هي بضع مشاهد نقشتها هنا، لأنها كانت البداية، بداية الحياة الحقيقية، هي خطوتنا الأولى سعياً للوصول إلى حريتنا السليبة. لذلك أردت أن تكون "اليتيمة ابنة الست سنوات" هي تدوينتي الأولى. ولا أدري كيف استدعيت جيوش الذكريات المحتشدة الآن وراء نصل قلمي، تنتظر أن تنسكب على صفحة البوح، لعله الحنين للشهداء الذين ذكرت أسماءهم والذين لم أذكرهم أيضا، أو لربما هو الخوف من هجوم الموت على كاتبها، فتبقى حبيسة لا تستطيع الشهادة على أجمل حقبةٍ في ثورتنا اليتيمة. لكن ما أتيقنه الآن، أني يجب أن أكف وأكبح جماح القلم.

وربما لو أنني واصلت الكتابة سأشعر بصقيع الوحدة، لأن قائمةً طويلةً من الأسماء التي ستنساب بين السطور، أسماء منقوشةٌ بالنور على جدران القلب، أسماء راحلين كنا يوماً شركاء في حلمنا الكبير، حلمنا بأن تنتصر اليتيمة، وهي لابد منتصرة ولو كره المتآمرون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.