شعار قسم مدونات

صوران بين البقاء والفناء

blogs-soran
بدا المشهد وكأنه هروب إلى الموت، لم يتوقع أحد منا أن الحياة سوف تتحول -داخل صوران- بين ليلة وضحاها إلى ما يشبه روما عندما حرقت، البقاء فيها موت، والخروج منها موت، وأنت إذن بحسب تلك المعادلة ميت لامحال.
اتصلت بصديق لي في اليوم الثاني لدخول الثوار للمدينة كي أطمئن عليه، كانت الإجابة صاعقة، أخبرني أنه يبحث عن ابنة أخته بين أولئك الذين شردتهم الحرب، سويعات قليلة بتصل بي ليخبرني أنه وجد صورتها مع أحد الأشخاص والذي قام هذا الأخير بدفنها ولكنه أخذ صورة لها قبل دفنها، هو طبعاً ليس من (صوران)، لكن أثناء موجة النزوح من الموت إلى الموت، ألقت الطائرة حمولتها فكان الموت نصيبها.
أمّا أبا علي فكانت حكايته أخرى، سقط سقف منزلهم ليعانق أرض نفس البيت بعد قذيفة مجهولة من مصدر معلوم، النظر في الأشياء لمدة طويلة يورثك إما حبا" جما" لهذا الشيء أو العكس، هذا ما حصل السقف ورث حبا" جما" لتلك الأرض وعندما حان وقت العناق بأمر تلك القذيفة لم يكن الوقت مناسبا"، لكن القدر وقع وكان تحت السقف الأب وابنه.

في صوران، الوضع أقسى من أن يوصف من خلال بعض الكلمات، المشهد أقسى من أن يكتب عنه، فالناس عند نزوحهم كأنهم يساقون إلى المحشر.

ذهبت لأطمئن على أولئك الذين نزحوا من المدينة وانتشروا في الأرجاء يريدون مأوى، طبعاً أبو علي كان ممن آوى المشردين، وجدته والابتسامة مرسومة على وجهه، أبديت له قليلاً من الاستغراب، أجابني: من مات رحمه الله، لكن هؤلاء النازحون يحتاجون إلى ابتسامة كي يبقوا عندي.

في الليلة التي دخل فيها الثوار للمدينة كنت أحدث أحد الأصدقاء داخل المدينة، أخبرته ليلتها أنني قادم إلى المدينة لإخراج بعض أهلها من الموت، بدأ يترجاني بعدم المجيء، الطيران يملأ الأجواء، صوته في الشدة يوازي صوت النساء اللواتي فجعن بأب أو أخ أو ولد. لا شيء ليلتها في المدينة سوى القصف والعويل.اليوم الثاني كان المشهد أقسى، مع بزوغ الفجر بدأ أهل المدينة بإخلائها كي تكون مكاناً آمناً للموت وللقصف وللحرب.
 
القصة لم تنتهِ هنا، أهل تلك المدينة فقراء جداً والقسم الأكبر من أهلها لا يملك قوت يومه، فكيف له أن يملك ثمن سيارة يضعها أمام بيته لمثل هذه الأوقات، الآن بعضهم مازال عالقا في الداخل منتظراً موته وأفراد عائلته، أو ينتظر تقدما "على الأرض آملا" بموجة نزوح جديدة من المدن التي تقع في جنوبها فيركب مع أحد النازحين ليستطيع الإبتعاد عن الموت ولو شيئاً قليلاً. ولكن هل يحالفهم الحظ أم يبقون في انتظار النازحين؟
الوضع أقسى من أن يوصف من خلال بعض الكلمات، المشهد أقسى من أن يكتب عنه أو يحكى عنه، الناس عند نزوحهم كأنهم يساقون إلى المحشر، وكلهم يحملون الصحف في يدهم اليسرى، من شدة الخوف. الحياة هنا كأنك تذهب نفسك حسرات عليهم، ولكن لا تسألني من هم، فلا أنا أعرفهم ولا أنت لو كنت مكاني تستطيع أن تعرف على من تذهب نفسك حسرات..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.