لن أحدثك عن مجموعة العمليات النوعية التي نفذتها قوات الشرطة الخاصة التركية، التي مكنتها من استعادة النقاط التي سيطر عليها الجيش ليلة الانقلاب.
ولست هنا لأسرد لك تفاصيل العملية البطولية -إن جاز لنا التعبير- التي قام بها الشرطي عمر خالص دمير، والتي أربكت القوة التي كانت متوجهة لاغتيال أردوغان أو اعتقاله. سأحدثك عن ليلة قضيتها بوصفي لاجئا، كان يدعو بإخلاص كل لحظة، لكي لا ينجح الانقلاب، ولكي لا ينتهي به المطاف مع ثلاثة ملايين إنسان من أقرانه طريدين أو مشردين، وسأخبرك إن كان لديك متسع من الوقت عن مراسل أمضى مع زملائه أصعب عطلة نهاية أسبوع.
أحدثكم عن ليلة قضيتها بوصفي لاجئ كان يدعو كي لا ينجح الانقلاب، وينتهي به المطاف مع ثلاثة ملايين طريد أو مشرد. |
إن كنت مقيما في تركيا، فإنك تدرك ولا ريب، أن يوم الجمعة هو إيذان ببدء عطلة نهاية الأسبوع، عطلة كنت أتطلع للاستمتاع بها قدر المستطاع، ليس لقضائها في باريس أو فرانكفورت، فأنا سوري إن كان يجهل هذا البعض، ولكن لأقضيها في إسطنبول، بلد اللجوء الذي رست على شواطئه مراكب ترحالنا، كغيرنا من اللاجئين العرب وما أكثرهم.
لم تكن عندي أية مخططات على الإطلاق، سوى أنني سأمضي الساعات الثمانية والأربعين القادمة، مستمتعا بنعمة الاستيقاظ متأخرا، مترفا بميزة التكاسل قدر الإمكان، أتوجه مساء إلى منزلي في حي الفاتح في إسطنبول، وأنا أخير النفس بين عشاء متأخر، واستيقاظ هادئ لا يقر أوانه رنين المنبه يعاجلني.
وبعد وصولي بساعتين، اتصال من مدير مكتبنا الأستاذ عبد العظيم محمد يدعوني فيه للانضمام إليه وإلى زميلنا معن الخضر الذي وصل اليوم إلى إسطنبول، وما هي إلا ساعة مضت حتى بدأ نمط غير اعتيادي من الاتصالات تنهال علينا نحن الثلاثة، كان آخرها اتصال من زميلنا المصور محمد خيري، ينبئنا بأن أمرا جللا قد حدث؛ الجيش التركي يغلق جسري اسطنبول ويمنع الناس من مغادرة المدينة. ويخبرنا أن أصوات طائرات تحلق جيئة وذهابا فوق سماء أنقرة، وأن دبابات باتت تجول الشوارع، وفي خضم تكرار حرف النصب، آنذاك كانت إن الأخيرة التي قالها الأستاذ عبد العظيم كافية بأن نقف على أرجلنا فيبدو أن انقلابا قد حدث فلنحث الخطى إلى المكتب.
يستغرق الوصول إلى المكتب من ذلك المكان عادة أقل من نصف ساعة، ويستغرق وصولنا إلى السيارة المركونة على الجانب الآخر من الطريق أقل من خمس دقائق، لكن هول المصيبة جعلت ثلاثة شبان أنيقي المنظر يقفزون من فوق السور الفاصل بين جادتي الطريق، ولا تسأل كيف وصلنا إلى المكتب خلال ربع ساعة.
وجدنا هناك عددا من زملائنا في المكتب، وعلى رأسهم الزميل عامر لافي، الذي وجد لنفسه مكانا أمام كاميرا استديو المكتب، استعدادا للمداخلات التلفزيونية، وليصل بعده زميلنا المنتج نضال الذي كان من المفترض أنه يقضي إجازته في عمان، بينما كان الزميل المعتز بالله وحيدا في مكتب أنقرة ينتظر قدوم المصور.
شرعت بداية في ترجمة التغريدات المحمومة على تويتر، وتصريحات رئيس الوزراء ووزير العدل، اللذان كانا يتحدثان عبر الهاتف إلى التلفزة المحلية، ولك أن تتخيل في أي حال كنا حين وجدنا رئيس الجمهورية بعد حين يتحدث عبر فيس تيم كان يحاول أن يبدو مترابط الجأش في حينها ولعله أفلح في ذلك.
في مهمة لم نكن نعلم عقباها توجهت والمصور محمد خيري إلى ساحة ميدان تقسيم حاملين معنا أدوات البث المباشر، والتي كانت مدخرات تلك الأجهزة في اعتقادنا كافية لأن نبقى هناك حتى الصباح أو حتى يستولي الجيش على الحكم، فننسحب تكتيكيا بحسب تعبير البعض ونجد لأنفسنا مكانا يؤينا.
أربعون عنصرا من الجيش بأسلحتهم وعتادهم يقفون في قلب ميدان تقسيم، يقابلهم على الجانب الآخر مثلهم ويزيد من قوات مكافحة الشغب التركية والتي انحازت حينها لصف الحكومة، لا يفصل بينهم إلا بضعة مترات فقط.
ينصب خيري الكاميرا وجهاز البث المباشر ويشير إلي بكل حزم وصرامة أن لا يدفعني حماس الصحافة المجنون إلى الاقتراب من أي طرف سواء من الشرطة أو من رجال الجيش، واجتمع حولنا العشرات واجتمع حول رجال الشرطة المئات ويزيد تأييدا لهم وتلبية لدعوة الرئيس للنزول إلى الميادين.
كان هناك عدد قليل جدا تجمع بالقرب من رجال الجيش بدأوا بالابتعاد عنهم بعد مرور الساعات و رجوح الكفة شيئا فشيئا لمعارضي العسكر، يزداد الحشد كل ساعة و يتضعضع موقف الانقلابين مع مرور الوقت. وفجأة و دون سابق إنذار أسمع صوتا مألوفا في مكان غريب، لعلي كنت أهذي حينها أو هكذا ظننت هل هذه دير الزور أو حلب و هل غادرت تركيا أسئلة جالت خاطري دفعة واحدة عندما سمعت هدير الطائرات.. لقد علمتني السنوات الخمس الأخيرة أن هذا الصوت لا يحمل في طياته الخير وهكذا كان.
كنت بين الأتراك يوم حافظوا على مكتسباتهم وحالوا دون عودة بلادهم لحكم العسكر الذي كان كفيلا بعودة البلاد لعصور الظلمة. |
فآخر ما لجأ إليه الانقلابيون في تلك الليلة هو استخدام الطائرات ضد المتظاهرين لعلنا كنا محظوظين في تقسيم تلك الليلة لأن الطيارين لم يكونوا بذلك القدر من الهمجية لكن آخرين كانوا في أنقرة لم يكونوا محظوظين.
كنت بينهم يوم انتصروا لإرادتهم و يوم انبروا يدافعون عن حقوقهم بصدور عارية .. كنت بينهم يوم يوم واظب الشيوخ والنساء والأطفال طوال تسعة وعشرين يوما على الاعتصام في الميادين دون كلل أو ملل.
كنت بينهم يوم جاؤوا يرفعون علم وطنهم و تناسوا كل أعلامهم الحزبية و يوم وقف مناصرو الحزب الحاكم مع أبناء أحزاب المعارضة في ذات الصف.. كنت بينهم يوم وصلنا و زملائي الليل بالنهار في تغطياتنا المباشرة التي رفضت إلا أن تنحاز لإرادة الشعب، ولست أرى في ذلك خرقا للمهنية أو للحيادية وحينها قال الجميع أن هذا يوم من أيام الجزيرة.
كنت بين الأتراك يوم حافظوا على مكتسباتهم وحالوا دون أن تعود بلادهم إلى حكم العسكر الذي كان كفيلا بأن يعيد البلاد إلى عصور الظلمة، نعم وإن لم ألتقط لنفسي أي صورة بين الحشود التي ملأت الساحات بعد الخامس عشر من يليو/ تموز الماضي، فإنني كنت بينهم ليلة الانقلاب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.