"نحن حبة رمل في وجه الزمان" بهذا تغنى مبدعوا موسيقى الطوارق للتعبير عن أنفسهم، فشطر بيت شعر الأوائل كافياً لفهم الوجدانية التي ينطلق منه مخيال الطوارق للتعبير عن طبيعة وجودهم العابر.
وهذا جعل وجود الطوارق الحديث يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأسطورة، إذ يكاد لا توجد أمة من أمم العالم الأصيلة لا توجد لها أساطيرها، لكن أن توجد أمة كاملة تحمل وصف الأسطورة فهذه هي "أسطورة الطوارق".
حاضر الطوارق المتردي الذين يعيشونه في ظل ترديد المولعين بتلك النظرات العجائبية والغرائبية يوقعنا في الخرافة. |
أسطورة الطوارق الرائجة نشأت من النظرة الغرائبية والعجائبية التي ينظر لهم بها بقية الشعوب من حولهم أو ممن استعمرهم واحتلهم، إذ لا يُروّج عنهم سوى الأساطير التي جعلت منهم أسطورة.
والعجيب حقاً أنه إذا كانت الأسطورة في أصل نشأتها تنشأ من الأمم ذاتها لـ"تنعش الوعي والحس القومي والدور الرسالي والمكانة المتفوقة"، إلا أن أسطورة الطوارق لم ينسجها الطوارق -بما فيه هذه التسمية- عن أنفسهم.
وإذا كانت أساطير الأمم والشعوب في أصلها وضعت كالخيال لحقيقة ماضيها في سبيل أن تحيا، فإن "أسطورة الطوارق" في واقع اليوم جُعلت سبيلا لفنائهم.
إن "أسطورة الطوارق" لم تصل حد الخرافة، إلا أن حاضر الطوارق المتردي الذين يعيشونه في ظل ترديد المولعين بتلك النظرات العجائبية والغرائبية يوقعنا في الخرافة، والفعل الذي يرتقي للأسطورة حقا هو العيش في الواقع المرير الذي يراد لهم أو أوقع الطوارق أنفسهم فيه.
فبين امتدادات الماضي والحاضر، واتصال الأسطورة والخرافة أحاول التوقف بينها لأسرد حكاية الواقع، واقع ينتعش بحقيقة "إذا أردت أن تدمر أمة فدمر أسطورتها" !
إن تدمير أي أسطورة تبدأ بفصل الحقيقة المثيولوجية للأمم عن مدركاتها الوجدانية، وربطها بتفسيرات وتأويلات تنطلق من الأيديولوجيا أو اختزال الأمة في النظرة السياسية، وبالتوالي لذلك تنشأ صوراً مشوهة عن الأساطير، محدودة بالرؤية لا متسعة بالرؤى.
لنجد سليل الطوارق المنعزل في قلب الصحراء القاحلة، يكاد لا يمتلك منظوراً كبيراً عن معيشة الأمم الحاضرة يتجاوز مطاردة سراب أحلامه، أحلام في حقيقتها لا تتجاوز سوى الحرية التي تجسدت في ترحاله، تلك الحرية التي انتزعتها منه تقسيمات "سايكس بيكو" بين القومية والوطنية والعرقية التي اختلقت التأويلات الأسطورية لإقناعه بأن الحرية في "لا حرية"، وبالتوالي لذلك نشأت عنه صورة المتمرد واللص والإرهابي والمتطرف والعنصري والقبلي والبدوي المتخلف.. إلخ من الصور المسطّرة تبعا لتلك التأويلات.
وفي الحقيقة أن ابتعاد أو اغتراب كل أمة عن حقيقتها كما هو الحال مع الطوارق، من تجارب التاريخ.. يجعلها مرهونة بحسابات الدخلاء، وهو ما يثمر حتماً انقلاباً وجدانياً وفقداناً للحس يصفه البعض بالتبعية والارتهان أو القابلية للاستعمار، والتي تجعل أبناءها أو الأجيال التالية تردد الأساطير الخالية من مضامينها كنوع من الزهو أو الافتخار دون إحياءها.
سأكتفي في هذه السطور، بأشهر الأساطير التي تردد لإظهار المكانة المتفوقة للطوارق وأشهر تلك "أسطورة الرجال الأحرار" التي رافقت تسميتهم وجعلت منهم أمثولة للشجاعة والإباء، هذه الأسطورة لا تنطبق على واقع اليوم فرجال الطوارق لم يعودوا أحراراً اضْطِراراً واختياراً ورُهنوا بحسابات المخابرات بأشكالها والمافيات من عصابات السلاح والمخدرات، أما ثوارهم الرافضين للخنوع جُعلوا عرضة للاغتيال والاختطاف والإعدامات من قبل الحكومات وجماعات القاعدة، وكل ذلك ليرتبط اسم الطوارق بوصف المرتزقة !
الباحثون عنها لن يجدوا اليوم إلا فلكلوراً أو سراباً يحسبه المولع حقيقة، فحقيقة أساطير الطوارق دمرها التفرق والجهل والمرض والفقر. |
ومن أشهر الأساطير أيضاً "أسطورة اللثام" التي جعلتهم مثار الغرائبية والتغزل والانفراد بالخصوصية، فهذه الأسطورة هي الاخرى تشوهت اليوم، إذ أضحى لثام الطوارق الذي تشد له الرحال مرتكزاً بصور نمطية للجماعات القاعدية المتطرفة التي جعلت من اللثام شعاراً للاختفاء والترهيب، وألصقت التهمة الجاهزة لرجال الطوارق، والفضيحة الكبرى أن الاعلام والسينما تداولت صور الطوارق وعنونتها بمانشتيات عريضة عن تلك الجماعات.
من الأساطير أيضاً "أسطورة الدم الأزرق" التي تداولها المستعمر الفرنسي عن دم الطوارق كناية عن الجسد الصحيح الذي لا يحتاج إلى أمصال للوقاية، إلا أن دم الطوارق بواقع اليوم وبفعل المستعمر ذاته متلوث من التجارب النووية ومن استخراج المعادن ومن تسميم الآبار ومن الأمراض العجيبة والغربية في ظل انعدامٍ تام لأي رعاية طبية بما فيها الحد الأدنى "حبة بندول يلزم أن يسافر لحدود دول أخرى ليحصل عليها".
آخر أسطورة هي "أسطورة المجتمع الأمومي" والتي أعطت للمرأة مكانتها الخاصة والطبيعية في مجتمعات الطوارق وهبتها حقوقها كاملة، إلا أن واقع اليوم يفرض أن تكون هذه الأسطورة منقوصة بمعايير المجتمعات الحديثة أو بمعايير الحياة الكريمة ببروز مظاهر زواج الصغيرات والإجبار على الزواج وفي غالبها نتاج الفقر وقلة الحيلة إضافة إلى أعمال المرأة الشاق في سبيل الحصول على قطرة ماء وغيرها.
في الختام هذه الأساطير لا يحق نفي امتياز الطوارق بها إلا أن وجود "حقيقتها الوجدانية" في واقعهم الحديث يضعنا على حافة الخرافة، والباحثون عنها لن يجدوا اليوم إلا فلكلوراً أو سراباً يحسبه المولع حقيقة، فحقيقة أساطير الطوارق دمرها التفرق والجهل والمرض والفقر.. تجعل منهم روايةً صعبة الفهم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.