شعار قسم مدونات

لا مساومة على حقي في أمومتي

blogs - mom
في مكتبة البلدية في مدينة نابلس عند النافورة الخالية من مياهها، والمقاعد الفارغة إلا من أشخاص قلة، وأشجار محيطة شاحبة حزينة، تهيء نفسها لاستقبال الخريف الواقف على الأبواب يترصد الفرصة المناسبة، ليأتي إلينا حاملاً هواءً لطيفاً لكنه مغبر في بعض الأحيان، وسارقاً من الشجر نضارته مسقطاً أوراقه التي لطالما يعتز بها أمام الأنظار.

في مكتبة البلدية، قارئ هرب من ضجة المدينة وأخذها ملاذاً ليسبح في كتابه بهدوء، وطلبة جامعيين أتوا إليها لتلهمهم أفكاراً لمشاريعهم القادمة، وعجوزان أو ثلاثة تركوا المقاهي لمرتاديها وأتوا إلى ساحتها يتبادلون أحاديثهم ويقتلون الفراغ، وطفلان تسربا من المدرسة في جيبهما سيجارتين أخفياها لتنفث في صدرهم دخانها بعيداً عن أعين المارة، وفي المكتبة أيضا كتب لم تمس وكتب أخرى اهترت صفحاتها، وأناس خذلوا فواروا انكساراتهم أمام الجميع وهربوا إليها يجلسون والصمت، يندبون حظهم في الوصول إلى حفة الهاوية.

لماذا علينا الوقوف في المنتصف ومن ثم العودة إلى اللاشيء؟، سألت نفسي مطولاً، هناك العديد من الحالات تنازلن عن كيانهن الخاص مقابل الزواج، لتصبح زوجة رجل وأم طفل وربة منزل

وفيها أنا، أغلق هاتفي، وأبحث عن مقعد تكون وجهته غير ظاهرة للمارين، وأجلس بلا كتاب أو رواية أو أي شيء آخر، سوى تصدعات في رأسي أعْيَته فَحَمَلته إلى الإنفجار، وأصوات تتردد في أذني تعلو وتنخفض فتشتت أفكاري، وسؤالٌ واحدٌ أعياني التفكير به وكان عقيماً لا يلد الإجابة لماذا علينا الاختيار بين الأمومة و العمل؟.

يدق قلبي بقوة خلف أضلعي كلما تذكرتها حين تطفلت علي وأصدقائي بمشاركتنا النقاش في ساحة المكتبة، حين تحدثنا عن وضع الكتّاب في بلدنا، يعلو صوتها بأذني بالخيبة مكرراً عبارتها النكرة والدتي أخبرتني إن كنت أريد الزواج علي الابتعاد عن هذا الطريق، ليغيب على مسامعي بعدها ما أردفت من كلمات جامدة، كاتبة أصدرت روايتها وأجهضت الأخرى في منتصف الكلام، لتكن النظرة الاجتماعية قادرة على إباحة هدر حبر قلمها، لتختار الزواج والعيش في النمطية الدائمة، والقيام بواجباتها على أكمل وجه وتجاهل حقها في عيش هذه الحياة كما ترغب كونها لن تعيش أكثر من حياة، فإما أمومتها وإما عنوستها، وما أجمل الأولى وأقسى الكلمة الثانية في عرف مجتمعها.

لماذا علينا الوقوف في المنتصف ومن ثم العودة إلى اللاشيء؟، سألت نفسي مطولاً، هناك العديد من الحالات تنازلن عن كيانهن الخاص مقابل الزواج، لتصبح زوجة رجل وأم طفل وربة منزل، يتساقطن كهذا الخريف الرافض لوجود الأوراق في عز عطائها، يترامين شاحبات مصفرات وصامتات، تتهاوى فيهن الأحلام وتنكسر تلك الطموحات، فقط حين قمن بالارتباط، فلماذا تكون هذه ضريبة أمومتنا التي وهبت لنا وحدنا.

تلكم الإناث لم يستطعن أن يحتملن أكثر هذه النظرة الاجتماعية الجاحدة في حقهن أن يكنَّ على هذا الوجود، ولا أن يحملن مسؤولية ثقيلة الوزن بين منازلهن وعملهن، في الوقت الذي أدار أزواجهن ظهورهم لهن عن أي مسؤولية داخل البيت تتعدى عملهم في الخارج، كضريبة على رغبتهن في العمل، فجلسن كشمعات أمي في بيتنا حين وضعتهن للزينة ومنعتنا من إضائتهن حتى حين يفصل التيار الكهربائي، تحت مسمى المحافظة، فبقين حبيسات الغبرة التي تمسحها أمي بين الفينة والأخرى، وهكذا حال البعض منا، تحت مسمى غيرة الأزواج والخروج من دائرة العنوسة أقفلن باب بيوتهن وتغلبت أمومتهن على أحلامهن فجلسن في الظل.

قاطعتني من شرودي نسمة هواء خريفية مرت فأطاحت بدفتر مذكراتي الجالس معي على ذات المقعد، التقطه فوراً ودونت به هذه العبارة لا مساومة على حقي في الأمومة، ومن ثم أقفلت دفتري وتركته على المقعد وحده ومضيت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.