شعار قسم مدونات

اللاهثون وراء العمق

blogs - sea
أتنقل في مواقع التواصل الاجتماعي وأصادف حسابات لأشخاص لديهم عدد متابعين جيّد. تمتلئ حساباتهم بمنشورات وتغريدات أظن لوهلة أنها تضع ربطة عنق من شدّة تضخيم وتحليل كل حدث تناقشه.

صفحات هذه الفئة لا تشوبها صورة عائلية بجودة عادية عبر كاميرا الهاتف. ولا يشوّه وقارها العظيم منشور نقديّ ساخر من هنا أو نكتة طبيعية يتبعها ضحكة طويلة من هناك. لا تستطيع التنبؤ بفريقهم المفضّل ولا من هم أصدقائهم المقرّبون لاستخدامهم جُمل متشابهة ومترفّعة مع "جمهورهم". أما محتوى صفحاتهم يقتصر على التحليلات الدقيقة لما يجري حولنا.

من سوء حظنا أننا نحيا في زمن متشابك ومهووس بالتعقيد يجبرنا أن تتنفس نشرات الأخبار ونحملها على ظهورنا.

إذن نحن نعاني أزمة حقيقيّة في التفريق بين العمق والتقاط العبرة من الأشياء في كفّة والابتذال والهوس بالتعقيد في كفة أخرى هي الغالبة. نخلط بشكل أرعن بين التفكّر بما يصادفنا من مواقف وبين إقحام الجدّية المفرطة في أدنى حركة وإلصاق مواعظ كبيرة فيها.

هذا التعالي الخانق والذي أورثـته الرغبة الملحّة بالانتماء للأفراد " العميقين " وهو ما يحتّم علينا نحت أنفسنا بمسمار ومطرقة حتى نفوز بالقبول الأعظم ونحظى بالبطاقة الذهبية للمفكرين. إننا نعيش بين فئة تحددّ لك ماذا يجب أن تقرأ تبعاً لعدد النجوم على موقع "جود ريدز" وما هي موسيقاك المفضلّة حسبما يصنّفون بعض الحناجر على أنها كادحة أو غير ذلك وبالتالي سماعها يضع ثقافتك على المحك بالرغم من أن سعر تذكرة لواحد من تلك الأيقونات "الكادحة " يساوي مصروفي لثلاثة أشهر. فقرة سياسية مفصّلة عن كل الدول ناهيك عن قدرة خارقة لمناقشة القرارات العالمية حتى لو حصلت في جزيرة نائية علِموا بوجودها اليوم.

من سوء حظنا أننا نحيا في زمن متشابك ومهووس بالتعقيد يجبرنا أن تتنفس نشرات الأخبار ونحملها على ظهورنا. تحتاج إلى مكّوك صغير ليحملك من مناقشة كتاب تشبه المعركة إلى اجتماع يهتم بالاقتصاد وتختم يومك باثبات حضورك في مقهى برفقة حمقى مشتـّتين يتكلمون بأي موضوع.

أنت ملزم باسترجاع مصطلحات صعبة في أقصر دردشة في الحافلة لتبهر الآخر بمدى اهتمامك بالعالم. ويجبرك أيضاً أن ترابط لساعات في الصفحات للدفاع عن كل القضايا حتى تشعر كأنك تقاتل مع الثوّار يداً بيد ويمنحك زهو خادع بأنك ستحلّ مجاعة القارة السوداء ومشاكل التعليم في القطب الجنوبي. كل هذه الرحلة الخرقاء لتحصل على وسام العمق وإلّا فالإقصاء مصيرك.

أي قضيّة غير السياسة والاقتصاد محض تفاهات وهوامش. وأي مشهد دون الكتب الفلسفية وهموم الجنس البشري الكبرى هي مشاهد ساذجة فوراً ولا تستحق أن تُطرح. إن حدّثَتهم امرأة بحماس لذيذ عن ظهور سنّ طفلها الأول وعن ملمس لثّـته الوردية تلاحقها نظرات الاستسخاف لأشهر. وآخر يخبرهم بنتيجة مباراة برشلونة ضد ريال مدريد فتصبّ عليه لعنات تاريخ الأندلس وأنه بهذه الغفلة يكون شريك في السقوط.

تقزّم الثقافة لتحصر في الكتب العملاقة وإن تم ضبطك ممسكاً برواية تُعامل كمن ضُبِطَ متلبّساً بجُرم. بحثك عن الجمال البسيط وملاحقتك للعصافير بعيونك يعتبر ترفاً. مشاهدة الغروب ضياع للوقت والإنصات لحديث العجائز على كراسي المستشفيات غفلة عن الأسى. سؤالك عن مطعوم للحيوانات تهمة وعار فكيف تجرؤ على الاعتناء بقطة مثلاً وأطفال تقتّل دونما رحمة ولا أطباء؟

لا تخف من كونك عاديّاً. هذا أفضل من اللهث وراء الوهم ومن استهلاك نفسك في كل بقعة.

أنا انسان بسيط وقاموسي مضحك أما العمق فهو شأن الغوّاصين وحفّاري القبور. ووسط هذه الدوّامة أنتمي لأؤلئك الذي يشاهدون النشرات ويدركون الكواليس السيئة للسياسة ولكنّهم لا يلصقونها بكلّ شيء. لمن لا يؤمنون بزيّ رسمي ثقيل للمفكرين ولا يتحملون الإسفنج على أكتاف معاطفهم ليبقيهم ثابتين في معارك نقاشيات الكتب. لمن يدمنون القراءة ليبنوا تصوّراتهم الخاصّة عن هذا الكون وليحصلوا على بعض المرح لا للاستعراض الزائف.

أنتمي لمن لا يعرفون إلّا التعابير البسيطة عن الحبّ والشكر والكره دون مواربات لغويّة. أستحضر قصة جميلة للنبي المؤيَّد بمعجزة البيان حينما جاءه أعرابي يشتكي بساطة دعاؤه وأنه فقط يدندن أي يدعو بصلاته ويسأل الله الجنة ولا يجيد دندنة ودعاء النبي فكان الرد النبويّ: حولها ندندن أيّ الجنة. ببساطة ووضوح ودون استخفاف بالأعرابيّ.

لا تخف من كونك عاديّاً. هذا أفضل من اللهث وراء الوهم ومن استهلاك نفسك في كل بقعة. جميعنا متعبون ونحمل من الهموم ما تحمله السماء من النجوم ولكنّنا لا نلمع. وإنْ انت اخترت درباً لتسلكه وكان هذا مفهومك الخاص عن الفكر والعمق لا شيء يجبر من حولك على دفع ضريبة هذا الاختيار. ارحم ضغفنا وقلّة صبرنا ولا تغرقنا بعمقك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.