تلامس سماؤها الخراب، وتحتضنها كأنَّها وحيدتها وليست الوحيدة، يتوحد ليّلُها أخيراً معها، وحشةٌ هي دون أبنائها، وتنظر على مارقيها بحرقة.. داريا المدينة العصيّة، تلك التي رَبتّني وعَلمتني وجَعلتني أكبُر بين حناياها، مازلت أذكر تفاصيلها بدقة، وأستيقظ من نومي حالمةً بآخر هرولةٍ فيها حين اعتلاها مكسورٌ يملكُ بندقية، قَنصَ فيها من شاء.
عن آخر ليلةٍ لي فيها سأبدأ .. تلاها أربعُ سنواتٍ عجاف، حصارٌ ودمارٌ وجفاف، حزينةٌ لمن فقدت. صديقاتي العشرة وأنا، دخلناه متخفين، لنمضي يومنَا الأخير فيها، ونعلن بعدها حداداً ليوم نعود، دخلناها كأننا لصوص ملثمين، سنسرق أرضنا ونخطف بعضاً من حجارة بيتنا.
لاثنين وعشرين عاماً قبلها، أمضيتُ فيها طفولتي وجميل صباي مع إخوتي السبعة، وكان لنا بيتٌ فيه ساحةُ الدار الواسعة، وخضرةٌ على جنَباتها، فيها الليمونُ والزيتونُ والتينُ والمشمشُ والعنب، والياسمينُ يتدلى على حائطها برائحةٍ تعبق بالمكان لا تُنسى.. أستذكرها في كل حين، وبحثت عن شبيهة لها هنا في غربتي، واقتنيت إحداها لأعود وأحيا مع ذكريات آيامي الدارانية كلما فاحت رائحتُها في منفاي.
والوردُ الجوري والريحانُ والمرجانُ والزنبقُ والخميسة وزهرة كنا نُسميها ساعة، فهي تشبهُ ساعة الزمن تماماً، كنتُ أتسابقُ مع إخوتي إليها، وغالباً أحظى بأكثرها، فأنا أصغرهم، ويحق لي ما لا يحق لمن يكبُرُني من إخوتي، نادراً كانوا لا يكترثون حين حظيتُ بأكثرها، فصوت بكائي كفيلٌ بلا مبالاتهم! أسارعُ وأقطُفها وأتلذذُ بطعمها، كانت تحملُ مذاقاً حُلواً، ربيع بيتنا لا مكان يشبهُه، يمتلئ حوض البيت برونقِ خضرةِ أشجارها كل ربيع، وحين يحل وقت العصر، يُعلّمُني والدي كيف أسقيها وأرُشها بقطراتِ ماءٍ تمسحُ الغبارَ عن وَرقها لتتلألأ، وتبدو كجوهرةٍ ثمينة بعين زارِعها وراعِيها، ويلتقي لمعانُها ببريق عينيه لتُضفي بمشهد يسرُ الناظرين.. تلك شجرةُ التين الكبيرة.
في ذات ليلةٍ سوداءَ حالكة، هجرناهُ وعُدته خلسة بعد أيامٍ مهجوراً مدحوراً مقصوفاً مدمراً نصفه. ماتَ ساقيها، رحلَ أبي لكن بقي يروي ثراها بدمائه الطاهرة، وتركتُها أنا.. أنا من رحلت وبقي هو خالداً فيها إلى الأبد .. عن ماذا أتحدث، كلما بدأت بذكرى تُقاطعني أُخرى قبل أن أُكمل ذكرايَ الأولى، هل هو تراكمُ ذكريات، أم أنني أريد أن أسابق الزمن لأروي أيامها الجميلة وكل لحظاتها المخطوفة قبل أن تغيبَ عن خاطري إحداها! بدأتُ أدَّوُنُها بعناونين وأكتب، سأحتاجُها جميعها، ولدي الكثير لأُدِينَهُم!
عُدتها لأزورهُ وأُقدمَ اعتذاري له بحرقة، ماتَ بعيداً عني، وتَركني باكراً، عَلمّني الصبر والتضحية والثناء والإيثار والكرم وحُسن الخُلق وكلَّ مكارمِ الأخلاق، بل أكثر، وكُلها حُفرت بقلبٍ سليم وعقلٍ يَرجو الحكمةَ كما أراد. زرتُ ضريحَهُ وبدأتُه بسلامٍ على دارِ قومٍ مؤمنين كمّا عَلمّني في محياه، وألحقتُها بأنَّكم السابقونَ ونحنُ اللاحقون، وشكَوتُه وبكيتُ غيابَهُ دُموعاً وحَنيناً، كان مصفوفاً بين مئات الشهداء، حينها رأيتُه يبتسم وكأنّه يقول لي لا تثريب عليكم اليوم، رقدتُها بسلامٍ.. وتابع يقول يا بُنيتي انتهت مسيرتي وهاكِ رسالتي لتبدأي، عاهدتُه وتحدثنا طويلاً وصوت القصف لم يفارق مسامعنا.
أبي وأخي المعتقل منذ ما يقارب الخمس سنوات، وبيت جمعنا، وألم ونبع من الأمل لن يخبو، ولن يجف، ما دام هناك دم يجري بعروق دارانية! |
بقليلٍ من التراب غَطى جسده الطاهر، وارتفعت بمقدمته شاهدة عليه لبني البشر تُقرؤهم بعض كلمات، تُعَرِّفَهُم من هو، وأنا التي أعرفُه بأيامٍ وشهورٍ وسنين، بقسوةٍ وحنين، برفقةٍ ولين وغضبٍ لحين. ابتعدتُ عنه مودعةً إياه على أمل لقاءٍ آخر قريب يجمعنا بدار عدلٍ لا ظُلم يحكُمها.
إحدى صديقاتي الصامدات لأخر يوم صمود فيها، كانت قد خبأت لي صورة عن آخر مشهدٍ لضريحهِ بعد أنْ أخفى منْ تبقى بمدينتي شواهدَ كلَّ مساكنِ الشهداء، كي لا يعبث بها أؤلئك المارقون، فلأجسادهم الطاهرة حُرمة لا نرضى بمساسها مِمَن لا يحفظ حرمة الدماء والديار.. وأَرسلتها لي بعد أيام من رحيلها لتلك البلدة العتية ..
أبي وأخي المعتقل منذ مايقارب الخمس سنوات وبيت جمعنا وذكريات وألم ونبع من الأمل لن يخبو ولن يجف مادام هناك دم يجري بعروق دارانية!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.