الكثير يعتقد أن الحجاب والحشمة علامتان مميزتان للدين الإسلامي، وما قبله لم يكن لهما وجودٌ أو انتشار، بل على العكس تماماً نجد أن مفهوم الحشمة وتغطية أماكن معينة من الجسد نشأ منذ بدء الخليقة الأولى عندما أكل أبو البشر "آدم" وزوجه من الشجرة المحرمة فظهرت لهما عوراتهما فخجلا وأخذا يغطيانها بأوراق الشجر كما جاء في القرآن الكريم: "فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة" (الأعراف/22)، ومنذ تلك الواقعة بدأت مسيرة البشرية في تغطية الجسد وستر مواقع حساسة فيه، فالإنسان البدائي الذي سكن الكهوف كان يغطي عورته بجلد الحيوانات التي يصطادها كما تظهر الأبحاث والدراسات والرسوم التي تناقلتها الأجيال.
من المستغرب أن معظم من خلعن الحجاب، أصبحت ملابسهن بعيدةً عن الاحتشام في محاولة لإبراز ماأخفته سنوات الغطاء. |
وعند مجيء الديانات، تطور مفهوم تغطية الجسد والحشمة، ففي الديانة اليهودية أجمع أحبار اليهود على أن المرأة مصدر جذبٍ للرجل، وأن التوراة تعمل على منع حدوث الفتنة بين النفس المثيرة والمستثارة، فقد نُقل عن الحبر "ماير شلّر" إجماع فقهاء اليهود على حرمة كشف المرأة اليهودية المتزوجة كامل شعرها في الشارع، كما قال الحبر "ششث" في التلمود صراحةً: "شعر المرأة عورة"، وفي مواضع أخرى ذكر "سفر التكوين" في نصوص العهد القديم أن حجاب المرأة يجب أن يستر جسدها وشعرها ووجهها كاملاً، كما أشار حاخامات اليهود -الذين يؤمنون بالتوراة ويعتبرونها كلام الله- إلى أن شعر المرأة زينتها وأحد منابع الفتنة في جسدها، لذلك كانت تعتبر المرأة اليهودية المحجبة مثالاً لطبقة الأتقياء ومقياساً لشرفها.
وفي الديانة المسيحية، لم تفرض الكنيسة أنماطاً معينة من اللباس الخارجي، إلا أنها اعتبرت الحشمة تعبيراً عن التزام المؤمن والمؤمنة بتعاليم الرب، ويجب أن تعكس مافي النفس من التقوى والورع، فلا يمكن أن تجد صورةً أو تمثالاً للسيدة مريم العذراء إلا وهي مغطاة الجسد والرأس، وورد في كتب العهد الجديد على لسان الرسول بولس: "وكذلك أن النساء يزّين ذواتهن بلباس الحشمة مع ورعٍ وتعقل، لا بضفائر أو ذهبٍ أو لآلئ لأو ملابس كثيرة الثمن، كما يليق بنساءٍ متعاهدات بتقوى الله" (1 تيم 2:9-10)، ونُقل عن بولس الرسول رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس في الإصحاح الحادي عشر قوله في النص الثالث عشر: "احكموا إلى أنفسكم، هل يليق بالمرأة أن تصلي إلى الله وهي غير مغطاة"، أضف إلى ذلك لباس الحجاب للراهبات في الكنيسة، وفرض عددٍ من الكنائس المسيحية الشرقية وكنائس البروتستانت المحافظة تغطية المرأة لشعرها أثناء حضور القداس.
وعندما جاء الإسلام، أتى ليكمل ما حملته الأديان السابقة من دعوةٍ إلى الحشمة وستر العورات، فجاء في القرآن الكريم عددٌ من الآيات التي تحدثت عن تغطية المرأة لجسدها وشعرها، فورد في سورة النور: "وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن" (النور/31)، كما جاء في سورة الأحزاب قوله تعالى: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً" (الأحزاب/59).
وفي العصر الحالي، أصبح الحجاب أحد أهم نقاط الاختلاف بين علماء المسلمين، فبعضهم اعتبره فريضة عينٍ على كل امرأةٍ مسلمة بالغة عاقلة، وبعضهم رأى فيه عادةً اجتماعية لا شأن للدين بها، مما دفع كثيراتٍ من اللواتي كُنا متحجبات إلى خلعه، أغلبيتهن ممن تركن بلدانهن وسافرن إلى بقاعٍ أخرى، متذرعات بضرورة تحرير المرأة من كل مايقيدها من ملبسٍ، على اعتبار مساواتها مع الرجل وعدم اعتبارها وسيلة جذبٍ له بشعرها ومفاتنها، مع أن الله سبحانه ذكر صراحةً في القرآن الكريم أن المرأة شهوة للرجل -شئنا أم أبينا- وهو ما خُلقت عليه الغريزة الإنسانية والفطرة، فقال تعالى في سورة (آل عمران/14): "زيّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا واللهُ عنده حسن مآب".
ولكي نكون منصفين، أصبح الحجاب في العصر الحالي مفهوماً اختلط فيه الدين مع العرف الاجتماعي، وبات أقرب إلى عادةٍ اجتماعيةٍ في كثيرٍ من المجتمعات المحافظة، فما إن تبلغ الفتاة رشدها حتى ترتدي الحجاب لتحول الأمرِ إلى طقسٍ متداولٍ في عمرٍ معين، مما يجعله قيداً على كثيرٍ من الفتيات اللواتي ينتهزن الفرصة الأولى لخلعه والعزوف عنه، وعندها يكون الخطأ الأكبر على الأهل الذين أجبروا بناتهم على تغطية الرأس انجرافاً للعادات والتقاليد ودون تعليمهن الغاية من الحجاب وإبرازهم للأسباب والحجج، ومنحهن الحق في ارتدائه عن قناعة تامة أو تحييد النظر عنه، مما يجعل الحجاب عادةً سلوكيةً مجردةً من أي قيمة دينية، وله مخافة من الناس أكثر من إله الناس.
نحن بأمس الحاجة إلى تغيير الصورة النمطية للمرأة المسلمة على أنها تابعةٌ للرجل مهمشة الحضور ومغيبة التأثير. |
ومن المستغرب أن معظم من خلعن الحجاب، أصبحت ملابسهن بعيدةً عن الاحتشام في محاولة لإبراز ماأخفته سنوات الغطاء، أو لمجاراة لباس أهل البلد المقيمين به، فتختلط الصورة والمظهر من التزامٍ كاملٍ إلى سفورٍ مطلق.
مما لا شك فيه أن المظهر جزءٌ من أية عقيدة، فكما القلنسوة ترمز إلى اليهودية، والصليب إلى المسيحية، الحجاب يعد شكلاً من مظاهر المرأة المسلمة، وكم يحتاج وقتنا الحالي إلى إبراز الصورة الحسنة عن الإسلام خاصة مع كثرة المتعصبين باسم الدين والإرهاب الملتصق به، والجائرين في تطرفهم وتشددهم، فما الضير أن تبرز صورة الإسلام وروحه السمحة التي احترمت جميع الأديان، وأعطت المرأة حقوقها كاملةً قبل صكوك حقوق الإنسان الدولية.
نحن بأمس الحاجة إلى تغيير الصورة النمطية للمرأة المسلمة على أنها تابعةٌ للرجل مهمشة الحضور ومغيبة التأثير، بل يجب أن يرى العالم ما وصلت إليه النساء من إنجازات ومناصب بحجابهن وإصرارهن على العطاء، فالدين ما كان عائقاً عن الحضارة والحرية يوماً، وما وضع القواعد للناس إلا لتهذيب النفس البشرية، وما الحجاب إلا سترٌ للجسد وتغطية للشعر، وليس حاجباً للأفكار والأحلام والحياة.
__________________________
ملاحظة: بعض المعلومات الدينية الواردة في المقال مقتبسة عن مواقع إسلامية ومسيحية فيما يتعلق بآيات القرآن الكريم ونصوص التوارة والإنجيل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.