شعار قسم مدونات

ليس لدي ما أقوله لك يا بُني..

blogs - syr
حزم حقيبته الصغيرة ونظر إلي بحزن وأسف وكأنه يقول لي "أنا آسف يا بابا" فحضنته كما لم أحضنه من قبل، ودسست أنفي بعنقه وأخذت شهيقا طويلاً وكأني لن أراه ثانية!

لقد فاجأته بموافقتي الفورية على سفره إلى أوروبا؛ فقد كان يعلم أني أرفض تماما ً فكرة سفر الشباب إلى عالم الأحلام الأوروبي، كون الأحلام من منظوري ليست شهادة جامعية، ولا وظيفة معتبرة، ولا عمل يدر أرباحاً ويحقق رغبات شخصية، بل هي وطن آمن وحاكم عادل يستطيع بظلّهما أي مواطن تحقيق أحلامه.. مجرد أنك قررت أن تسافر إلى أوروبا هذا لا يعني أنك حصلت على تذكرة عبور؛ بل وضعت روحك -مع عشرين أو ثلاثين أو خمسين روحا ًهاربة من الموت وحالمة بالحياة- في قارب مطاطي صغير، ستتقاذفه الأمواج كيفما شاءت إلى أن تجد نفسك على شواطئ أوروبا تتنفس الصعداء، أو يجدك خفر السواحل جثة هامدة، أو تستقر في بطون الأسماك.

إنها مغامرة، أو مقامرة، بل هروب من واقع سوري "عربي" مزري، نعم أعترف بهذا، لكني أدركت أني لو رفضت فكرة سفره لأعلن كُفره أمامي بديمقراطيات الغرب ومجلس الأمن والأمم المتحدة وهيئات حقوق الإنسان والعرب والعروبة، مع أني سبقته إلى ذلك منذ سنوات قليلة. إنها صدمة يصعب تقبّلها، بل صاعقة حرقت أشجار وسيقان وجذور أحلام فتى متفوق بدراسته يرى المستقبل أمامه مشرقاً فوجد نفسه فجأة عامل "سباك".

ما كان لأسوأ المتشائمين على وجه الأرض أن يتوقع وقوف معظم دول العالم مع سفاح قتل أكثر من نصف مليون بريء.

كنت أحدثه عن سوريا جديدة، سوريا العدالة والحرية والعلم والتقدم والرفاهية، وطن يتساوى فيه بالحقوق الرئيس والوزير وقائد الجيش وصاحب دكان الخضار في حارتنا.. قلت له: في سوريا ما بعد الأسد ستعيش حياة إنسان حقيقي يقول ما يراه صحيحا دون أن يتلفت يمنى ويسرى خشية أن يسمعه أحد، بلد يحق لك فيه أن تفكر وتبدع وتخترع وترنو إلى الوصول لأعلى المناصب.

هذا ماكنت أقوله في السنة الأولى من الثورة، لكن مواقف وسياسات المجتمع الدولي أجبرتني شيئا ً فشيئا ً على إعادة التفكير بما ستؤول إليه الأمور؛ فما كان لأسوأ المتشائمين على وجه الأرض أن يتوقع وقوف معظم دول العالم مع سفاح قتل أكثر من نصف مليون بريء ودمّر نصف سوريا وهجّر معظم السكان، لكن يمكن لأي أحد التمعّن في تاريخ العرب الحديث مع الغرب و معاناة الشعب الفلسطيني من الاحتلال الإسرائيلي وماحدث في العراق وما يحدث الآن في ليبيا واليمن فضلاً عن الانقلاب العسكري على الرئيس الشرعي محمد مرسي واستقبال السيسي في القصور الرئاسية الأوربية ودعم الانقلابيين بعشرات مليارت الدولارات.. كل ذلك يتيح لك استقراء مستقبل أي ثورة عربية قد تندلع مستقبلا ً!

ماذا أقول له ليبقى؟ بماذا يمكنني أن أعده؟ ما الذي يجعله يتراجع عن قرار السفر"الهروب"؟ كيف يمكن تجميل القبيح، وتصوير الفساد إصلاح، والعمالة مقاومة، والتدمير بناء، والعتمة نور، إلا بالكذب والدجل؟

لاجئي الحرب يتوقون لتجربة الحرية والكرامة غير المنقوصة، حياة لم يتذوقوا طعمها في وطنهم، ولم يجدوا في بلاد الأشقاء ما يعوضهم عنها.

كان يستحيل أن أقول له اذهب إلى سوريا و قم بواجبك.. ولطالما بحثت عن جواب – فيما لو قرر هو الانخراط في صفوف الثوار وسألني – إلى أي كتيبة أو لواء أو جبهة أو جيش ينضم؟ ما اسم الفصيل الذي يملك قراره وسلاحه ولا تتحكم فيه استخبارات عربية أو غربية أو أشخاص يتاجرون بالدماء أو أشخاص بايعوا أو قد يبايعون بأي لحظة منظمة "إرهابية"؟ كان يؤرّقني هذا الأمر كثيرا ً ويحزنني جدا ً، تشتت الثوار في أرض المعركة واستماتة الشرق والغرب على القضاء على الثورة السورية..

لقد امتزج الحزن والحلم في عينيه.. كانت نبرة صوته تخلو من أثر الخوف من البحر والغرق أو الموت بين أنياب سمكة قرش، وبينما كان واضحا ً عليه الخوف من الإخفاق في الوصول إلى أوروبا؛ فهو ككثير من السوريين يرون فيها مستقبلهم الواعد، يبحثون عن الأمان، يتوقون لتجربة الحرية والكرامة غير المنقوصة، حياة لم يتذوقوا طعمها في وطنهم ولم يجدوا في بلاد الأشقاء ما يعوضهم عنها!

نعم للأسف.. ليس لدي ما أقوله لك يابني.. الله معك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.