شعار قسم مدونات

فلولوقراطيّة

blogطابور

في عام 1936 وخلال الحرب الأهليّة التي قادها الدكتاتور فرانكو في إسبانيا سيّر "غونزالو كوايبو ديلانو" أحد جنرالاته الثلاث أربعة طوابير من الجنود لدخول مدينة مدريد ولكنّه أسقطها في النهاية عبر طابور خامس لم يكن يحسب له أحد حساب.

كان طابورا في الدّاخل مكونا من العناصر الفاعلة الموالية والمخلصة له في قلب العاصمة وهي مجموعات من العملاء السريين مهمتها إثارة الرعب والفزع والبلبلة والقيام بأعمال حربية وإشاعة الفوضى لتهتز الجبهة الداخلية ومن ثم تسقط العاصمة المحاصرة من كل الاتجاهات ومنذ ذلك اليوم أصبحت تسمية "الطابور الخامس" مصطلحا حربيّا يستعمل في السياسة كإحدى وسائل التوصيف لـ"جبهة" واسعة و متسعة تشمل قطاعات مختلفة تمتلك نفوذا وسلطة كبيرة على صناعة الرأي العام وتوجيهه.

كما كشفت الثورات عورات النظم المتسلّطة قد كشفت أيضا عورات كثيرة لتيارات كثيرة ظلّت ترفع شعارات الديمقراطيّة لسنوات.

بعد سبعة عقود بالتمام و الكمال ها نحن نشهد نشأة ما يسمّيها عالم الإجتماعي الكندي الفرنسي "آلان دونو" بـ"ديمقراطيّة التفاهة" التي يقول أن أفضل تجسيد لها يتمثّل في صورة "الخبير ممثل السلطة والمستعد لبيع عقله" في مقابل "المثقّف الذي يحمل الالتزام تجاه قيم و مثل" و يضيف "دونو" أن جامعات اليوم التي تموّلها الشركات، صارت مصنعاً للخبراء، لا للمثقفين! حتى أن رئيس جامعة كبرى قال مرة إن "على العقول أن تتناسب مع حاجات الشركات" لا مكان للعقل النقدي ولا لحسه"، هذا تقريبا ما كان محرّك (دينامو) عسكرة السياسة في مصر و هو نفسه ما كان ولا يزال "مصنع" الدكتاتوريات والشوفينيّات القاتلة.

في مصر كما في تونس صنعت جوقة من "التقنيين" برتبة "خبراء" لدى السلطة لا بحكم كفاءتهم بل بسبب بيع عقولهم لها، كل تلك المساوئ و البرامج و السياسات التي أنتجت ثورات شعبيّة عارمة بعد أن استأثرت لنفسها بالدولة ومؤسساتها وكل المجال العام وتوسّعت دائرة ضحاياه الذين هم ضحايا النظام و الأهم أنها وحّدتهم على التمرّد على هذه "العصابات".

نفس هذه الجوقة أعادت ترتيب صفوفها بسرعة كبيرة مستغلّة عدم خبرة و عدم تنظم و تنظيم الصفوف و التيارات المشاركة في الثورة لنفسها أولا وخاصّة تمكّنها من مؤسسات ومربعات النفوذ ثانيا وهي المؤسسة العسكرية والإعلامية في مصر والمؤسسة الأمنية  والإعلامية في تونس، ثمّ عادت الجوقة لتغرّد بنفسها مجدّدا، ففي مصر نفّذتا انقلابا عسكريا على الثورة أمّا في تونس فقد نمّقت ديمقراطية المشهد بلا جوهر ولا مضمون.

إذا كان هؤلاء-رموز ديمقراطيّة التفاهة- بهذا الشكل من التنظيم وعلى هذه الدرجة من الخطورة بما يمكّن من تسميتهم "طابورا خامسا" فإنّنا نشهد اليوم نشأة طابور آخر يمكن أن نسمّيه "الطابور الحابس" وعلى نفس الدرجة من الخطورة والقذارة في الكثير من الأحيان فالثورات كما كشفت  عورات النظم المتسلّطة قد كشفت أيضا عورات كثيرة لتيارات كثيرة ظلّت ترفع شعارات الديمقراطيّة لسنوات.

وهؤلاء صنفان صنف تمثّله القيادات السياسيّة والحزبيّة التي لم تستوعب زمانها أو مكانها أو الإثنين معا وهي قيادات تعيش غربة على واقعها و صنف ثان يتمثّل في من يؤدّون ويتملّقون كلّ يوم دور "الطابور الخامس" لدى هؤلاء أو امتهان المزايدات الكلاميّة على آخرين.

مثلما ثمّة "طابور خامس" و "طابور حابس" و ثمّة "ديمقراطيّة التفاهة" ثمّة أيضا ما يمكن أن نسمّيه الفلولوقراطيّة.

في الصنف الأوّل من "الطابور الحابس" هناك من فشلوا في إيجاد موطئ قدم لهم في مشهد سياسي تلى ثورات الشعوب فقاموا بإخصاء أنفسهم نكاية في خصومهم الأيديولوجيين أو السياسيين، و هناك أيضا من وجدوا لأنفسهم موطئ قدم في المشهد الجديد و بقوّة أيضا و لكنّ الغرور و إدّعاء الحكمة والتعقّل و إحتكارهم للرأي ورغبتهم الجامحة في السلطة حوّلتهم إلى نسخة مشوهة أو مشابهة  للأنظمة الشوفينيّة التي قامت ضدّها ثورات الشعوب.

أمّا في النصف الثاني من الطابور فنجد دوائر لبعض من يعرضون خدماتهم بأشكال مختلفة على أحزاب و عائلات سياسيّة منتصبة أو أنها أصبحت جزء من المشهد الجديد بنفس العقليّة وبنفس الانتظارات التي كانت تجول في خلد الطابور الخامس الذي كرّس نظم الاستبداد، أمّا إذا فشلوا في نيل مبتغاهم فيذهبون إلى رفع السقف لإسقاطه على الجميع تحت شعار الراديكالية والثوريّة لينتهوا في الأخير مجرّد "عملاء" بعلم أو بغيرعلم لنظام يكرّس كل تلك القيم والمبادئ التي يدّعون الدفاع عنها.

مثلما ثمّة "طابور خامس" و "طابور حابس" و ثمّة "ديمقراطيّة التفاهة" ثمّة أيضا ما يمكن أن نسمّيه "الفلولوقراطيّة" أيّ إدعاء الديمقراطيّة بنفس وسائل الفلول والأنظمة السابقة أو بوسائل مشتقّة منها وقد تكون بنفس الأشخاص أو الأجهزة أيضا فالمسألة هنا تتعلّق بمغتربين في المكان ومغتربين في الزمان وبينهما يهرول من ينتظرون عسل الديمقراطيّة التي يعدون بها وفي الواقع ليس هذا سوى مشهد كوميدي أسود.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.