شعار قسم مدونات

الأخبار التي لا يقرأ عنها أحد

blogs-الانقاض

كان إبراهيم يناغي أمه التي وضعته بالقرب منها في المطبخ ريثما تحضر له زجاجة الحليب، لحظات وانهار كل شيء في المطبخ بعد أن قصفتهم طائرة تابعة للنظام السوري. يقول أنس، المتطوع في الدفاع المدني: عندما وصلنا إلى مكان القصف سارعنا لإنقاذ الأب وأطفاله الذين وجدناهم تحت الأنقاض، بينما بدأنا بالتنقيب عن الأم والرضيع الذين دفنا تحت أنقاض المطبخ.

بينما اختلط مذاق الكلس والتّراب والدّم في فم الأم، بدأت عيناها تألفان الظّلمة وهي تحاول جاهدةً استنشاق كل الأوكسجين المتسرب من بين الحجارة، جدران قفصها الصدريّ ضغطت مع سائر جسدها المكور، وظلّت تحاول تحريك الأحجار الثقيلة من فوقها كي لا تدفن هنا إلى الأبد كجثّة مفقودة لم يتمّ العثور عليها.
 

بينما يحتفل وجه العالم القبيح باليوم العالمي للسلام، تلقى في سوريا القنابل المحشوة بالبارود مغلفة بشريطة سيليكون مقدمة بتواطؤ الجميع في لعبة عالمية خبيثة.

يقول أنس : عندما عثرنا عليها لمحنا يدها تحاول إزالة الأنقاض الثّقيلة من فوقها. حاولنا تحرير رأسها بحذر، وما أن تمكنت من التقاط أنفاسها نادت على طفلها الرّضيع بهستيرية : يااا ابراااهيم.. يااا إبرااهيم.. صيحاتها التي اخترقتنا ترَدّد صداها مدوياً وكأن الأرض ارتجّت لتنشقّ من جديد تحت زلزلة أوجاع الأمّ المكلومة.

وجدنا الرضيع ابن الشهرين وقد فارق الحياة، فسارعنا بسحبه وإخفاء جثته عن أمه ريثما تتلقى الإسعافات. كتب لوالدته النجاة لتتعافى وتتمرغ في دروب الأيام حاملةً معها ذكرى هذا اليوم كندبة دائمة في وجه الذاكرة.
 

بينما يحتفل وجه العالم القبيح باليوم العالمي للسلام، متجملاً بحقن السيليكون من شعارات مزيفة، ويستمر بترميم جفاف ضميره بإبر النفخ الإعلامي ليحافظ على ما تبقى من وجهه الإنساني.

وبينما تتطاير ملايين القلوب الافتراضية في موقع الفيسبوك، تلقى في سوريا القنابل المحشوة بالبارود مغلفة بشريطة سيليكون مقدمة بتواطؤ الجميع في لعبة عالمية خبيثة. في هذه اللحظات العصيبة لا يخرج سوى رجال القبعات البيضاء ليحفروا الأنفاق نحوالسلام الحقيقي بأيديهم المجردة.
 

بعد أن تخلى معظم الأطباء عن قسمهم الأبقراطي وغادروا من بلاد أفرغت من كل أشكال الحياة، بقي هناك بعض الأشخاص البسطاء من عمال بناء وخياطين ومدرسين وطلاب جامعيين، أعادوا تشكيل أحلامهم ورسم قناعاتهم الجديدة باستثمارها في أسهم تخلى عنها الجميع، وهي الحياة المنسيّة تحت الأنقاض. يحملون معهم شعلة النور بكل أمانة ومحبة، وقد راهنوا على الاستثمار البشري الأثمن ( ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً).
 

أعادوا برمجة خططهم لتتناسب كفة الحياة مع كفة الموت القادم من كل ظلمات الكون. أنقذوا حياة ما يزيد عن 60 ألف شخصٍ من تحت الأنقاض، وفقدوا حوالي 141 شهيد من رجال الدفاع المدني بسبب تعمد الطيران معاودة قصف الأهداف مجددا.

أخبرني أنس، الإعلامي والمتطوع في الدفاع المدني في خان شيخون كيف تم استهدافهم منذ أسابيع: كنا قد انتهينا من سحب خمسة أشخاص في مكان القصف الروسي. لحظات قليلة حتى عاود الطيران للتحليق من فوقنا فقمنا بالاحتماء جانبا، في تلك الأثناء سقط بضع جرحى وشهداء. عندما ذهبنا لانتشالهم عادت الغارة الجوية مجددا لتلقي القنابل العنقودية المحرمة دوليا، مؤدية لاستشهاد اثنان من رفاقي وهم عبد الحميد كيروان وإبراهيم ديوب.
 

كانت محاولة إنقاذ الأرواح هي الإشعار المضيء الأخير في صفحة أعمارهم. في الليل، غالبا ما يتجول أفراد الدفاع المدني في الظلام خشية الطيران الحربي الذي يظل محلقاً في الأجواء. فعند إشعال الضوء ستبحث الطائرات عن مصدره وتتجه لقصف المكان بسرعة.. وهكذا تختفي الأضواء والحيوات وتصمت الضحكات إلى الأبد. ويظلّ الطيران محلقاً بجعبته الدمويّة باحثاً عن ضحيّة محتملة ليعيد تشكيل الليل على هواه المعتم السوداوي.
 

وتستمر الطائرات الحربية الأسدية والروسية بهذيانها الوحشيّ متعمدة باستهداف المتطوعين والمشافي وسيارات الإسعاف وأماكن تجمع المدنيين. كان آخرها غارة استهدفت قافلة لإيصال المساعدات الإنسانية وتسببت باستشهاد مدير وأعضاء أفراد الهلال الأحمر البالغ عددهم 12 شخصاً بتاريخ 19/9/2016 في ريف حلب الغربي.
 

في سوريا الطريق إلى الحياة محفوفٌ بالمهالك ولا يملك المنقذ سوى يديه في حيزٍ يضم أشلاء ستخرج لتدفن تحت الأرض مكفنة بالدم والدمع. 

هذه المخاطر لا تثنيهم عن مواصلة المهمة التي نذروا أرواحهم لأجلها، فكل فرد في الدفاع المدني بتخليه عن رفاهيته اليومية في مناوبة تستمر 24 ساعة، يُخرِج الجنديّ المجهول من قمقمه متحدياً بقبعته البيضاء متعقباً آثار البارود الذي اخترعه نوبل، يبحث عن أصوات همس واهنة أوحركة مفاجئة تحت الأنقاض، وحده من يهدهد أخر الأمنيات المحتضرة بينما ينام العالم في صمت مريب.
 

عندما ينتهي من مهمته، يترك لمسةً من السلام المفقود تغمر طرقات المدن السورية. ينثر البسمة على رؤوس جبال الخراب والدمار التي تعرضها الشاشات في ماراثون السبق الصحفي، وحدها قصص النجاة، هي الأخبار لا يقرأ عنها أحد.

حيث لا أجهزة إنذار مسبق، ولا مخارج طواريء، ولا سيارات إطفاء متطورة، ولا طرقات سالكة، ولا معدات إسعاف كافية، ومع وجود عائلة تنتظر عودته سالماً، يستمر في رسالته السلمية تدفعه الرغبة الملحة بإلقاء حبال النجاة ومد جسور الحياة لمن يحتضر مغالبا أوجاعه في ضفاف النسيان.
 

فالطريق إلى الحياة محفوفٌ بالمهالك ولا يملك المنقذ سوى يديه في حيزٍ يضم أشلاء محتملة ستخرج لتشطب من سجل الأحياء لتدفن تحت الأرض مكفنة بالورد والدم والدمع والقبلات في رحلة الوداع الأخير.
 

هذه الجهود الجبارة بإمكانيات متواضعة جعلت منظمة " سيريان كامبينغ" تطلق حملة عالمية لدعم مؤسسة الدفاع المدني في سوريا للترشح لنيل جائزة نوبل للسلام عام 2016. بينما يحجز العالم طلبياته لشراء أحدث إصدارٍ من أجهزة آيفون 7، هناك في الطرف المنسي والأكثر بؤساً في العالم، من يعتمر خوذته البيضاء ويسارع لحجز أولى المقاعد في رحلة البحث عن الحياة مقدماً روحه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.