شعار قسم مدونات

حكاية نوستالجيا

blogs - light

" أنا بخير، لكني أعاني من ذاكرة لا تكف عن العبث بتفاصيل الماضي" نبال قندس، الروائية الفلسطينية.

إن استدعوك رفاقُ الصحبة الماضية للقائهم، فلا تتحمس كثيرا، فقد ألقى الزمن بظلاله على طبائع النفوس وأنماط السلوك. اجعل ذاكرتك مثقوبة بعض الشيء، لأن الماضي روحٌ لا يتنفس سوى الماضي نفسه. ومحاولاتنا البائسة لقولبة الماضي في أحضان الحاضر لن تجدي نفعاً، فثمة قطيعة لا هوادة فيها. الحاضر مادة جميلة للعمل، للإبداع، والحنين إلى الماضي في زمننا ليس من العقل في شيء.

كرة حياتنا تكبر بتدحرج أيامها، كلما انداحت دائرة الأيام أكثر كلما تكونت طبقاتٌ تُباعِدُ ماضينا عن حاضرنا في كل شيء، وكلما اختلفت الأدواتُ وتباينت بين زمنين، زاد حنقُ الماضي واستبسلَ في الانزواء هناك، في زاوية التاريخ، يقول: دعوني وشأني، لن أجلب لكم سوى الأحزان وأنين الذكريات المروعة التي عبرتكم بسرعة مجنونة ولم تنخ بجانبكم لتسعدوا بها أكثر!.

يعاني "الطيِّبون" من جيل السبعينات وبداية الثمانينات أكثر من غيرهم من حالة (النوستالجيا)؛ الحنين إلى الماضي.

يَرْبِتُ الحاضرُ على كتف الماضي، ويقول له: سريعاً ستجدني فيك، جزءٌ منك. ليأتي حاضرٌ آخر جديد يتعلق به الإنسان فيحترق فيه مجدداً بسبب نزعاته المادية وانشغالاته المشؤومة بتحقيق الإنجاز الذي يزعم.

ما أجمل أن نتعايش مع أيامنا الحاضرة بطمأنينة، حيث تكمن السعادة الحقيقية في العمل من أجل الإنجاز لا الإنجاز ذاته.

عبثاً، أحاول استجماع تفاصيل الماضي في حياتي، كلما مررت بغرف بيتنا القديمة في الطابق السفلي، دخلت إلى مطبخ الراحلة أمي لأتفقد نقوش الجدار الأزرق الفيروزي المرصوص منذ منتصف الثمانينات، لأعزي النقوش فيما اختفى منها بفعل التقادم. أعدُّ بطريقة حسابية تقريبية كم مرةً صنعت لنا أمي طعاماً في هذا المكان لتقدمه بين أيدينا ملتفين حول المائدة . وأرمق بنظري صالة الجلوس التي كنت أستمع فيها لحديث ماتع بين أمي وأبي حول الذكريات والأشعار والحداء.

يعاني "الطيِّبون" من جيل السبعينات وبداية الثمانينات أكثر من غيرهم من حالة (النوستالجيا)؛ الحنين إلى الماضي. وقد حكاها أسامة الشاذلي في روايته بذات العنوان: نوستالجيا!. وسرُّ خصوصية استعادة الذاكرة لهذا الجيل تحديداً هو أنهم عاشوا مراحل متباينة بين الحياة البسيطة المتصالحة – عادةً – مع ذاتها وبين حياة جديدة متشابكة ومعقدة – غالباً – وتطورات سريعة لم تتخذ طابع "النضج على نار هادئة"!.

لكن الماضي رحل و لم يرحل بأيامه فحسب، بل بكل تفاصيل المرحلة وأفكارها وسلوكها وتراكمات الأجيال فيها، أتساءل: هل ينبغي دائماً الإحتفاء بإرث الذاكرة؟، هل يتعين علينا أن نعيش حاضرنا بعقول تطنُّها هواجس الماضي وقلوب تطحنها أرتال الذكريات؟.

طريقي الذي أشعر أنني اخترته أحياناً أو أُجبرت لأمضي فيه أحياناً أخرى لاستحضار عصى الماضي والتوكؤ عليها، بِتُّ أضمرُ له من البغض أشُدَّه، يَرِينُ على صدري اكتئابٌ خانق بسببه. ويكاد يقتلني في اليوم مائة مرة.

في ثنايا محاولاتي لإيجاد حل لهذه المعضلة بعيداً عن مذلة الشكوى للطبيب النفسي، أو طلب النصيحة والدعاء من شيخٍ عالم.. قدّْرت أن الكتابة ربما تكون الدواء الناجع لهكذا حالة.

لكن وفي سكرة الحماس للقراءة والكتابة معاً، قرأت للراحلة هديل الحضيف عبارةً أعادتني إلى نقطة الصفر من جديد، شعرت أنها تخاطبني مباشرة وتعنيني دون غيري حين تقول: "قبل أن تتمادى.. الورق ليس سوى كذبة العمر الأزلية، والقلم أكبر متواطئ في الجريمة، وقبل أن يسحبك الزيف إلى وحله.. ثق بأن ما يُكتَبُ في بياض الأمل، يمحوه سواد اليأس".

الماضي السيء، فتكفينا فيه توبة، سجدة وابتهال. لنغسل بها عاراً مضى ونقيمُ حياتنا بعد ذلك.

أصابني بعض الذهول، وشيء من الحسرة، سريعاً حاولت استجماع قواي والتقاطُ أنفاسِ أملٍ، لأتجاوز كابوس تلك العبارة، قلت لنفسي لن تفتأ تذكر الماضي مهما تداويت، لكن أُكْتُبْ!. وصحيحٌ إلى حدٍ ما أن الكتابةَ قتلت هديلاً؛ يافعةً في منتصف عشريناتها،  بيدِ أن ثمةَ قبسُ إيمانٍ بأن القلم سيمنحني الأمل لتجاوز المحنة!.

بين الداء "الماضي" وبين الدواء "الكتابة"، أحاول المزاوجة بينهما ضمن برنامج العلاج الذي قررته لنفسي،  كأني مريض يشكو وعكة بالصدر، فيصرف له الطبيب بعض المضادات اللازمة، ليتناولها ثم يتبعها بالتدخين!. يقول لا أستطيع الانعتاق من السيجارة، والمرض يكاد يهلكني، إذاً: سأجمع الأمرين معاًّ!. لا بد من التسليم بالقضاء، حيث ( أننا لا نشفى من ذاكرتنا، ولهذا نحن نرسم، ولهذا نحن نكتب، ولهذا يموت بعضنا أيضاً) كما تقول أحلام مستغانمي.

الماضي الذي أعنيه هنا هو أيامنا الحُلوُّة، صبانا وعنفوان أمهاتنا وآبائنا، وهجُ صباحاتنا التي لا تشبه شمسها آنذاك؛ شمسنا اليوم، وليالينا المزدانة بالأنس ونثر الكلام الحواري الذي استحال في ليالينا الآن عالماً افتراضياً مكتنزٌ بِهَدْرَجْةِ المشاعر المعدلة وراثياً!.

أما الماضي السيء، فتكفينا فيه توبة، سجدة وابتهال. لنغسل بها عاراً مضى ونقيمُ حياتنا بعد ذلك بسيئات أخرى، يعقبها توبة وسجدة وابتهال.. وهكذا.

ليت الحاضر ينفث في روعاتنا روح الشجاعة لننسى الماضي قليلاً، لنكتب ولنستمتع بالكتابة.. وسيأتي الإنجاز لاحقاً يصرخ كهدير الرعد.

كان الأندلسيون أكثر خلق الله استمتاعاً بالدنيا، تارة بالحلال والمباح، ولا بأس تارة أخرى من بعض الممنوع المحرم، لأن ترف أرضهم كما ترف مشاعرهم، يجبرهم على المتعة ويهبهم عذوبة السمر بالشعر والنثر وأنواع الأدب، مع ما يخالطها من قصص الحب والغزل ونزعات الإعجاب،  ولذلك نشأ ما يسمى بالمُمَحِّصْات وهي إرث أدبي شعري مادته التوبة عن أشعار الغزل في ماضٍ تلاشى بلا رجوع  فيبدع الشاعر قصيدة ملئ بالحكمة والندم لمقابلة قطعة شعرية قديمة تتدفق بأنهار العشق والصبابة.

يقول ابن عبدربه الأندلسي في وجع فراق من أحب بسبب منع المطر لها من زيارته:
هلاّ ابتكرت لِبَيْنٍ أنت مبتكر …. هيهات يأبى الله والقدرُ
ما زلت أبكي حذار البين ملتهفاً …. حتى رثى لي فيك الريح والمطرُ

ثم بعد رحيل ذاك الماضي وحين تناوحت أغصان المشيب، بادر ابن عبدربه لتمحيص قصيدته الغابرة فقال:
يا قادري ليس يعفو حين يقتدر …. ماذا الذي بعد الشيب تنتظرُ
عاين بقلبك أن العينَ غافلةٌ …. عن الحقيقة واعلم أنها سقرُ

ليت الحاضر ينفث في روعاتنا روح الشجاعة لننسى الماضي قليلاً، لنكتب ولنستمتع بالكتابة.. وسيأتي الإنجاز لاحقاً يصرخ كهدير الرعد!.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.