ودّع العالمُ محمد علي في وقت سابق من هذا العام بعد حياة استثنائية. خرج موكب تشييعه من منزله الخاص في لويفيل كنتاكي، مارا بنوافذ بيته التي لوّح منها لأول مرة بدهشة للعالم، عابرا بجوار مركزه الرياضي الخاص، في بلدته التي أحبها كما يحب الناس مرابي يفاعتهم الأولى، وبينما كان محبو "بطل الشعب" يلقون على موكبه الورود، ويقدمون احترامهم الأخير له، ظلّ علي ممددا بهدوء في تابوته بعد رعاشه الطويل في لحظة كان يتجهّز لها كثيرا.
ذات يوم، استيقظ العالم على صوت شاب عشريني يقول أنه الأجمل والأعظم وأنه سيحقق بطولة العالم في الوزن الثقيل، وأمام ملاكم يُدعى"سوني ليستون" اشتهر بقتاله كثور، اعتلى على عرش العالم مرددا بصوته المدجج بكل دواعي الغطرسة لشاب ملَك العالم لتوه: "لقد صدمتُ العالم".
كيف حقق علي مجده الخاص؟ وكيف اقترب من حافة الخلود بطريقة لم يجرؤ عليها سوى القليل من البشر؟ |
لاحقا، ومن خلال حياة درامية شدّ هذا الشاب العالم كله إليه وطوّف باسمه بكل طريقة مستطاعة في سياحة كونية لا نهائية، فسمعه مزارعو الشاي في سيلان، ومهربو العاج في السافانا، والشعراء وصائدو الأغنيات بكل لغة إنسانية.
هو الذي قال مرة: "منذ البداية أردت أن أكون مشهورا لتصل كلماتي"، فوصلت كلماته التي أرادها للعالم وأصبح في وقت ما الشخص الأكثر شهرة، وأكثر من كُتب عنه، وحين أغمض للمرة الأخيرة، سُمع اسمه ثانية في أقصى زوايا العالم الساكنة، وكُتب نعيه بكل اللغات، ومرة أخرى، تُسمع كلماته وحدها وسط الضجيج الذي يموج العالم في هديره، في إعادة لسيناريو اشتهاره، وكمثال على عود أبدي كان ليرضى عنه نيتشة كثيرا.
كيف حقق علي مجده الخاص؟ وكيف اقترب من حافة الخلود بطريقة لم يجرؤ عليها سوى القليل من البشر؟
ربما كان ذلك مقدّرا له، حين وُلد بمواهب تجاوز بها محيطه الصغير الذي رسمه المجتمع، قافزا فوق العتبات التي امتلأ بها طريقه كـ"شاب أسود في الولايات المتحدة منتصف القرن الماضي". لم تكن حياته سهلة، وكانت ظروفها بالغة التعقيد والتشابك، لكنها الظروف التي تحدد معايير العظمة البشرية، والتي نالها محمد علي بشكل لا يقبل الشك.
قبل علي، كان عالم الملاكمة خاصا وقاسيا وبعيدا عن اهتمام الناس، أولئك الذين لم يكونوا بقرب الزوايا الأربع مدربين وملاكمين ومذيعين ومشجعين، الناس العاديين الذين لم يهتموا بالقتال بين اثنين لأجل لقب، ولم يعرفوا حماس جرس البداية ولهفة الترقب للكمة القاضية.
لقد أعاد علي تشكيل الحلبة بوصفها مسرحا للنضال السياسي، والملاكمة بوصفها أكثر من مجرد رياضة بربرية، واستطاع أن يحمل الجميع على التصديق به كشخصٍ متجاوز للتعريف بمفردة واحدة، لأنه يمكن قراءة علي الملاكم، أيضا، في سياق المناضل والسياسي والشاعر والكوميدي الساخر سريع البديهة بدرجات متقاربة في الفرادة.
لماذا كان يقاتل علي؟
أجاب مرةً: "القتال طريقتي الوحيدة لكي أصبح مشهورا، ويسمع الناس ما أقول"، لم يرد شهرة بلهاء وحسب، بل ورقة رابحة يرفعها من أجل قضايا عادلة. لم يكن يكره خصومه، حتى فريزر الذي أساء له كثيرا بصوت علي "الملاكم" لا بصوت علي "الإنسان"، ولم يكره إيرني تيريل أيضا، والذي ظل يدعوه "كاسيوس كلاي" ؛ الاسم الذي رماه خلف "محمد علي"، فهزمه بقسوة وهو يسأله طيلة الجولات: "أخبرني ما هو اسمي ؟"
لم يكره أيا ممن لاكمهم، لأن الملاكمة كانت وسيلة لا هدفا، كانت حصان طروادة الخاص به، وقطاره البخاري نحو حريته وحقه في أن يكون، فكان.
داخل الحلبة، لاحقت الأعينُ محمد علي وهو يدور حول منازليه مترقبا لحظته. كان يردد باستمرار "أحلّق كالفراشة وألسع كالنحلة. لا يمكن ليديك ضرب ما لا تراه عيناك".
من السخرية أن تكون ملاكما في الوزن الثقيل وسريعا بهذا الشكل" يقول صحفي مجهول.
يسأل آخر:
"هل سترقص في الحلبة كما كنت تفعل في السابق ؟"
فيرد علي : " هل سأرقص ؟ .. هل البابا كاثوليكي ؟!"
سوف يذكر العالم للأبد علي في مواجهة ليستون وصيحته "لقد صدمتُ العالم". سيذكر الحروب الثلاثية لعلي وفريزر ؛ آخرها في رطوبة مانيلا الخانقة، حين أوقفت الرطوبةُ فريزر فانسحب، بينما ظلّ علي يركض نحو مجده مدفوعا بأقوى أسلحته الشخصية ؛ الكبرياء.
سيذكر العالمُ الصورة البانورامية الخالدة له وهو يسير عائدا نحو ركنه، رافعا يديه، ومن ورائه يتمدد كليفلاند ويليامز باستسلام مقنِع كشبحٍ مهزوم. سيذكره ضد هنري كوبر في ملعب ويمبلي بلندن بعد تصريحه الشهير: "سأهزم هنري كوبر، وبإمكانه بعدها أن ينضم للبيتلز"، فعادت عبر المحيط أخبار انتصاره اللندني تطرق أبواب بلدته. وسيذكره أكثر كلما استعرض سجل نزالاته الملحمية الأخرى، حتى تلك التي خسرها، حين لم يسقط أبدا بالضربة القاضية، وجاءت بعضها في نهايات رحلته كملاكم بعد أن تمكن منه الرعاش.
لكن الذاكرة ستبطئ سير حنينها وهي تمر بدفتر علي، وستقف طويلا في كينشاسا بزائير تحت مطر إفريقي ساحر، وفي ملعب مكتظ بالآلاف تصيح حناجرهم بـ"علي .. بوماييه" أو "اقتله يا علي". يومها وجد علي نفسه في الوطن الذي اُنتزع منه أسلافه القدامى، يحارب من أجل مبادئ لا يفهمها سواه، وبرغبة لا تُحد لاسترداد لقبٍ جُرّد منه ظلما لأنه رفض الذهاب لحربٍ لم تقنعه أسبابها، وبعد سنوات من الحرمان من فرصة اللعب كان قد أفلس فيها أو كاد، وجد علي نفسه مواجها مجده الكبير، وسيناريو انبعاثه السينمائي، شرط المرور من نقطة التفتيش الصعبة؛ جورج فورمان.
تحدث علي قبل اللقاء عن فوزه الساحق بثقة واكتساح. كان هذا أسلوبه الاعتيادي قبل النزالات، حيث ينتصر لسانُه، وتُحطم كلماتُه اللاذعة الخصوم، قبل أن يأتي النزال لتأكيد النصر المحقق سلفا، لكنه ظلّ طيلة اللقاء مستندا على الحبال متلقيا أقسى اللكمات التي يلقيها فورمان على جسده، ما أثار التكهنات بفوز سهل للغريم.
كانت هذه استراتيجيته التي لم يخبر بها أحدا، والتي ابتكرها لنزالٍ يتيم وسميت لاحقا بـ "Rope a Dope" حيث ظل علي مستندا على الحبال يمتصُّ الضربات ويستنزف جهده خصمه مخاطرا بحظوظه، ومراهنا على صوت عزمه الداخلي وما تبقى من طاقة لمواصلة الطريق نحو الفوز حين يبدأ فورمان بالتعب. في الجولة الثامنة فوجئ فورمان بمن بدا وكأنه مستسلمٌ طيلة النزال يهمس في أذنه قائلا: هل هذا كل ما لديك ؟ وفي لحظة درامية كثيفة عاد علي ينثر سحره الخاص، راقصا مرة أخرى كالأيام الخوالي مسددا سلسلة لكمات لا مرئية .. وكجذعٍ عملاق في الغابة هوى فورمان ببطءٍ ساقطا أمام عدّ الحكم العشري .. وانتهى النزال. يرفع علي يديه متعبا ويرفعه الآخرون، ثم يضج العالم مرة أخرى بصوت علي القادم من عصور أخرى .. "لقد صدمتُ العالم".
على حلبة الحياة، فاز علي وخسر، وعاش لحظات المجد والانسحاق. كانت حياةً كاملة تحت الضوء تملّاها وتمناها الكثير، حياةً تستحق أن تُعاش |
بعد سنوات، يسترجع فورمان أحداث تلك الليلة في فيلم وثائقي، كيف خسر النزال وخسر نفسه بعدها قبل أن يجد عزاءه في التدين، مخبرا كل من تساءل عن سر عظمة علي قائلا: "بينما كنت أسقط، كانت لدى علي فرصة مناسبة لتسديد لكمته الأخيرة نحو وجهي. كانت لديه القدرة على تدميري، لكنه لم يفعل، لهذا هو الأعظم".
وإذا لم يكن حظه من التعليم جيدا، فقد كان يتحدث كبروفيسور، ويقول الشعر، وتستضيفه الجامعات متحدثا. في أكسفورد تحدث أمام جمعٍ كبير من أطباء الغد ومهندسيه وساسته، سيطر عليه منذ البداية ببراعة نكاته وسخريته، هو الذي لا يمتلك شهادة تعليمية معتبرة ينصت له أصحاب الشهادات بذهول.
كان شخصا منذورا للمجد والتغيير، وككل العظماء اختار عبء قلبه وتحمله وحده، مغيرا اسمه ودينه، رافضا الحرب، واقفا أمام آلة الإعلام القاسية، منتصرا .. حتى وهو يخسر رخصته ولقبه العالمي. كان نسيج نفسه بلا شك، واحدا في وجه الطوفان. كان ما يريد حتى أعداؤه أن يكونوه .. حرا بالطريقة الصعبة.
بيد أننا لا نتحدث عن ملاك، بل عن بشري عادي يعيش مثلنا في طيف واسع من التدرجات بين الحقيقة ونقيضها، والصدق والكذب، والعفة والنزوة .. فكما أحسن محمد علي فقد أساء، فشتم من لا يملك مثل قدراته الكلامية وأقذع، ولم يكن وفيا أحيانا كزوج، وخذل أقرب الناس له في وقت كانوا فيه بأمس الحاجة إليه كما فعل مع مالكوم اكس. لكن أقدار العظماء تحددها أخطاؤهم كما تفعل محاسنهم، وكذا كان علي، متحليا بشجاعة الاعتذار وطلب المسامحة، فأرسل لفريزر معتذرا عن إساءاته القديمة له، ولزوجته عن خياناته، مثلما كتب أيضا لمالكوم اكس في كتابه "روح الفراشة" طلبا متأخرا للغفران لن يسمعه الأخير -للأسف- بعد اغتياله.
على حلبة الحياة، فاز علي وخسر، وعاش لحظات المجد والانسحاق. كانت حياةً كاملة تحت الضوء تملّاها وتمناها الكثير، حياةً تستحق أن تُعاش.
في البدء كانت الكلمة .. وفي النصف والختام تكون. رحل علي، ولم تمت كلماته التي أراد أن يسمعها العالم، كلماته التي قالها في معاركه الكلامية قبل وبعد النزالات، وفي معارك الحياة الحقيقة. كانت كلماتُه حربَه النفسية، وزكاةَ الشهرة التي أراد بها أن يقول شيئا صادقا وخالدا وذا معنى.
"لقد شاهدتُ جورج فورمان يلاكم الظل، وقد انتصر الظل عليه"
"أنا الأعظم. كنت أقولها قبل أن أعرف أنني كذلك"
"من الصعب أن تكون متواضعا وأنت في مثل عظمتي"
"إنه عملٌ فقط. العشب ينمو، العصافير تطير، الأمواج تضرب الشواطئ. وأنا أطيح بالملاكمين أرضا"
"إذا حلمت بهزيمتي يوما، من الأفضل أن تستيقظ وتعتذر لي"
"أنا سريع للغاية. ليلة البارحة أطفأت النور، وكنت في السرير قبل أن تظلم الغرفة بشكل كامل"
"هل سيجد الناس يوما ملاكما مثلي، يكتب القصائد، ويتنبأ بجولات انتصاره، ويهزم الجميع. ملاكما يُضحك ويُبكي. ملاكما في عظمتي ؟"
"كاسيوس كلاي اسم لعبد، لم أختره، ولا أريده. أنا محمد علي ، اسم حر لرجل حر"
"إذا كان بإمكانهم استخراج البنسلين من العفن، فبإمكانك بكل تأكيد استخراج شيء منك"
"أنا أمريكا. أنا من لا تود الاعتراف به. لكن تعوّد علي، أسود، واثقا، متعجرفا، تعوّد على اسمي لا اسمك، ديني لا دينك، أهدافي أنا. تعوّد عليّ"
"لا أقاتل من أجلي، بل من أجل إخوتي. إخوتي السود الذين ينامون على الأرض القاسية، ويعيشون في الملاجئ. السود الذين لا يجدون ما يأكلون، والذين لم يتعلموا ولا مستقبل لديهم"
"لماذا علي أن ألبس الزي العسكري وأسافر عشرة آلاف ميل لإلقاء القنابل على الناس في فيتنام، بينما يُعامل إخوتي في لويفيل كالكلاب ويُحرمون من أبسط حقوقهم الإنسانية ؟"
"لا أملك ضغينة ضد أولئك الفيتكونغ. لم يدعني أحدهم بالزنجي يوما !"
"الرجل الذي يرى العالم في الخمسين كما كان يراه في العشرين، يكون قد أضاع ثلاثين سنة من حياته هباءً"
"مساعدة الآخرين هو الأجر الذي تدفعه لقاء وجودك في الأرض"
"مرض باركنسون كان تذكيرا من الله لي بما هو مهم. أبطأ المرض من كلامي وجعلني أنصت أكثر مما أتحدث، وفي الحقيقة، الناس الآن يعيرونني الانتباه لأنني لا أتحدث كثيرا"
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.