هي ثلاثة أعوامٍ ونيّف، وما زلتُ أزور السرير رقم (٦٠) في المشفى، كما يزور الصوفيّ مراقد الصالحين، وما زلتِ ترقدين هناك كالقمر على شيفونيّةٍ بيضاء، وما زلتُ أغضضُ من أنفاسي فَوْقَ رأسكِ، خشيةَ أن أخذ قطعة هواءٍ أنتِ بحاجةٍ إليها -تماماً كما كنتِ تفعلين معي-، ما زلتُ لليوم يا سيدتي أرقبُ جهاز تخطيط القلب، تلك الإنحناءات التي توقّف قلبي عندها الاف المرّات، ثلاثة أعوام مرّت على توقفه، وما زلتُ أهزّه آملاً بأن يعمل من جديد، في كلّ مرّةٍ أعود فيها إلى هناك بحثاً عن رائحتك، أسمع الجدران البيضاء تعيد ترتيل سورة "يوسف" والتي كنت أتلوها على رأس الموت لعلّه يخطئ وجهكِ ويرحل، أسمع أنينَ المقعد الحديدي، الذي لم يكن يقوى على حمل قلبي الثقيل.. ويموتون كي يعلموا كم كنّا نحبّهم.
جميع ما في المكان يتهمني بكِ، مقبض الباب يشدّ على يدي سائلاً عن يدكِ، وياسمينةُ باب البيت تسألُ عن ساقيتها. |
وتنتهي زفّة الموت، وتأخذ قافلة المنايا عروسها، كإكليل وردٍ يرشّ السُّكَّرَ على قانية القدر، ولأول مرّة ومنذ سبعةٍ وعشرين عاماً أعود إلى البيت ولا أجدكِ تنتظرينني هناك، كطفلٍ يحملُ حقيبته المدرسيّة أعود، جميع ما في المكان يتهمني بكِ، مقبض الباب يشدّ على يدي سائلاً عن يدكِ، وياسمينةُ باب البيت تسألُ عن ساقيتها، وقطة الدار تطالع صحنَ الماء بماء مآقيها.. جميعنا صِغار أمام صدور أمهاتنا؛ يا أمي.
إلى من قاسمتنا عظامها ولحمها وجلدها، إلى من قاست ألمَ الموت لتمنحنا الحياة، إلى من ترانا أطفالاً حتى تزوَّجنا وبعدها ترانا أطفالاً أكثر، إلى من تجرّعت أشواك الورد، لترضعنا ماء الورد، إلى من بنى الله الجنّة تحتَ قدميها، إلى كلّ الأمهات أكتب "أنتنّ عيدُنا"..