شعار قسم مدونات

التواضع جوهر الإيمان

صلاة في كراتشي

سأسمح لنفسي بالقول غير هيّاب إن أكثر ما نجهله في حياتنا هو معنى التواضع وضرورته، طفقتُ طوال خمس سنوات أبحث في التواضع وهذا ما خلصت إليه؛ نحن نجهل معنى التواضع ونجهل أننا نجهل والجهل مصيبة واحدة. أما جهل الجهل فمصيبتان.

وأنظرُ في نفسي وحولي فلا أرانا ندرك أكبر مآسينا؛ الجهل أشد وطأة علينا من الفقر والمرض، وأما ما هو أكثر وبالاً علينا من المرض والفقر والجهل فهو كِبْر في قلوبنا لا نعي به.

أن ينسب المرء إلى نفسه شيئاً من الفضل أو يرى لها قدرا، أو يتوهم لها حولاً وقوة، فذلك هو الكِبر  المهلك، هل تندهش ولا توافق إذا سمعت شخصاً يقول "أنا كذا وافتخر"؟ أم ترى أن الأمر "أكثر من عادي"؟ ومع هذا الشعور الطاغي بالتميز يعتقد الواحد منا أنه متواضع. يعتقد أنه متواضع وفي نفس الوقت يعتقد أنه أفضل من غيره! كيف لا يزعجنا هذا التناقض الصارخ؟

والغريب أن مصدر الاعتقادين واحد: بما أن الشخص يرى نفسه أفضل فإنه يرى نفسه جديراً بكل الفضائل بما فيها التواضع. ومن أسباب هذا التناقض أننا نظن أن التواضع هو "الطِيبة" والتبسّط.
لذلك فنحن بحاجة إلى أن نحدد منذ البداية ما هو التواضع ومعناه ؟ ألا تظن سواء في اعتقادك أو تصرفك أنك أفضل من غيرك.

ومكان التواضع  القلب أولاً، ثم يتنزل سلوكاً وتصرفاتٍ على أرض الواقع في تعامل الشخص مع الناس. وهذه التصرفات المنفردة إنما هي تعبير جزئي عن التواضع الكائن في القلب، وهو كلٌّ وجوهر لا يقبل التجزئة، ولا الانتقاص ولو بمثقال ذرة، وفي الحديث "لن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر".

تواضعْ ما شئت في مخالطة الناس ومجاملتهم، لكن التواضع الحقيقي هو أن تعتقد في قلبك أنك لست أفضل من أي واحد منهم

تواضعْ ما شئت في مخالطة الناس ومجاملتهم، لكن التواضع الحقيقي هو أن تعتقد في قلبك أنك لست أفضل من أي واحد منهم. فــ"التواضع القلبي" جوهر لا يليق به إلا الكمال، أما "التواضع العملي" أو السلوكي فيمكن أن يزيد أو ينقص بحسب اجتهاد الشخص، وهو من التقوى، لكن المهم أن يظل الجوهر على تمامه في القلب لا ينقص ولو بمثقال ذرة.

فها هو أبو دجانة رضي الله يمشى في الحرب مشية الخيلاء، وهي مشية يبغضها الله ورسوله في غير هذا الموقع، ولكنه فعل ذلك وقلبه مطمئن بالإيمان وعامر بالتواضع، فمشى مشية تزرع الهيبة والرهبة في قلوب الأعداء بدون أن يتزعزع تواضعه في قلبه. شأن أبي دجانة في مشيته شأن القاضي الذي يرفع صوته تثبيتاً لهيبة المحكمة، وشأن الجندي الذي يمشي متحدياً عدوه، وشأن الرجل الذي يحب جمال الملبس والمركب.

قال المصطفى صلى الله عليه وسلم "الله جميل يحب الجمال وإنما الكِبر بطر الحق وغمط الناس"، أي أن التكبر هو إنكار الحق واستحقار الناس والعبرة إذن بما في القلب حيث ينظر إلينا الله. ومن أسباب هذا التناقض أيضاً -أي اعتقادنا أننا أفضل من غيرنا وأننا متواضعون في نفس الوقت – جهلنا بمدى أهمية التواضع.

لا يكاد يختلف اثنان في أن التواضع مهم لكن في نظر الكثيرين، ليس أهم  مثلا من الصدق والوفاء والكرم والشجاعة. ليس التواضع مهماً فحسب بل هو جوهر الإيمان ومعناه، والفرق شاسع بين المهم والجوهري. وليس التواضع مجرد ركيزة من ركائز الدين بل هو الأساس الذي تقوم عليه ركائز الدين؛ والفرق شاسع بين الأساس والركيزة.

الأساس هو الأرض نفسها التي تقوم عليها الركائز وبدون تلك الأرضية لا تجد الركائز ما تقوم عليه. بدون التواضع تصبح الركائز المهمة مثل الصدق والأمانة هباءً منثورا. نحن مطالبون بتحقيق التواضع بنسبة مائة في المائة، وبالتخلص من التكبر بنسبة مائة في المائة ولا ينطبق ذلك على أي صفة أخرى.

الكرم بنسبة مئة في المئة إسراف وتبذير، والشجاعة مئة مئة تهور وتهلكة. أما التواضع بنسبة مئة في الماة فيعني كمال العبودية لله. ولا يقبل الله عبودية ناقصة لكنه يقبل عبادة ناقصة. وبدون التواضع ينتفي الإخلاص، فالشخص الصادق غير المتواضع قصده الرياء؛ والشجاع المتكبر هدفه نيل المدح والكريم المتكبر غرضه الشهرة.

لنختصر الوقت ولنقل إن التواضع هو العبودية لله وإسلام الأمر إليه. أجل الإسلام نفسه هو التواضع: "أسلمتُ لله" تعني أنني تواضعت وخضعت وذللتُ لله، وأني لا حول لي، ولا قوة لي، ولا فضل لي على أحد. إن لم استيقن من ذلك فما شهدت لله بالوحدانية. وشهادتي لله بالوحدانية تعني بالضرورة نفي أي قدرة أو حول أو مكانة أو فضل لي بجانب الله.

وإذا كنتُ بلا حول ولا قوة ولا قدر ولا فضل، فكيف لي أن أعتقد أنني أفضل من أي شخص؟
وبالمثل، طالما أن جميع الناس مثلي لا حول لهم ولا قوة لهم ولا فضل إلا بالله، فلماذا إذن أخافهم أو أسعى لإرضائهم بما يغضب ربي؟ الله وحده الأحق بذلك.

الكرم بنسبة مئة في المئة إسراف وتبذير، والشجاعة مئة مئة تهور وتهلكة. أما التواضع بنسبة مئة في الماة فيعني كمال العبودية لله

والآن، بعد أن أفرغنا كلمة "إسلام" من معناها، لا نجد إلا كلمة "تواضع" مصطلحا تقنياً يدلنا على معنى الإسلام الذي رضيه الله لنا ديناً هو أن نتواضع حتى تتلاشى وتختفي كل ذرة من ذرات الكبر من قلوبنا.

الإسلام الذي انْ ابتغى أحدنا دينا غيره لن يقبله الله منه هو التواضع، المنافي للكِبر، الإسلام الذي جاء به المرسلون من لدن آدم إلى محمد عليهم صلوات الله وسلامه جميعاً هو التواضع "قولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ". ولهذا نحن “لا نفرق بين أحد من رسله" "ونحن له مسلمون".

على المسلم أن يمعن في التواضع حتى لا يرى لنفسه فضلاً على الناس يفتخر به، وحتى لا تبقى في قلبه ذرة من كبر، وإلا فلن يدخل الجنة مع الداخلين، مهما صلح باقي عمله، حتى ينال عقابه في النار.

كان النبي (ص) وأصحابه يفهمون الإسلام على أنه التواضعٌ، التواضع في القلب وفي السلوك؛ ويفهمون الجاهلية وكفرها وشركها على أنها الكبر في القلب والتعالي على الآخرين والأمثلة على ذلك كثيرة.

وحين قال الفاروق "أعزنا الله بالإسلام" كان يقصد "أعزنا الله بالتواضع" ولكننا الآن نفهم عبارة "أعزنا الله بالإسلام" على أنها تصريح لنا بالتكبر على الآخرين، وعلى بعضنا بعضا، باسم الدين.

وعندما قال الرسول (ص) لإبي ذر رضي الله عنه "أنت امرؤٌ فيك جاهلية" أدرك أبو ذر على الفور أن هذه الجاهلية المناقضة للإسلام إنما هي التكبر، وأن الحل هو في الرجوع إلى التواضع فما كان منه إلا أن وضع خده على الأرض وطلب من بلال أن يطأه بقدمه.

لكننا شيئاً فشيئاً نسينا معنى الإسلام ودلالته الضرورية على التواضع، حتى صار الكثيرون يفهمون أن الإسلام يعني العكس تماماً أن ترى نفسك أفضل من الآخرين، وأفضل من غير المسلمين لإسلامك، وأفضل من المسلمين لبعدهم عن الإسلام في نظرك وهنا تكمن داعش الكبرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.