شعار قسم مدونات

وكأنني لم أتخصص

blogs - ale
عندما كنت في السابعة كنت أغرق في عوالم الخيال كلما سمعت حكاية سيف بن ذي يزن، كما أني كنت أعيش تفاصيل الخيال كلما استمعت إلى صوت المعلمة أمينة وهي تقرأ القرأن، أقف طويلاً متأملة هدهد سليمان الذي كان يتحدث عن ملكة يمنية، كبرت وقرأت عن أروى الصليحية، قرأت عن ابن الأمير الصنعاني، وقرأت عن الزبيري، وعن الثلايا، وعن البردوني، وكانت اليمن بالنسبة لي أشبه بقطعة فسيفساء متنوعة، وعلى رغم تعداد ألوانها إلا أن كل قطعة بقيت فناً بحد ذاتها.
 
لكني في ذلك السن أيضاً عشت الحرب التي هدمت نصف منزلنا قبل أن نولي هاربين لنبحث عن حياة في حي آخر، لازلت أتذكر كل تفاصيل الموت الذي يخفت وهجه عندما يبتدئ موسم الحكايا من فم جدتي حليمة، أو من فم خباب ابن جارتنا، أو من فم أمي وهي تحاول أن تجد إجابة مسكتة لأسئلتني الفضولية، وعندما كبرت..كبرت الفسيفساء التي لطالما أحببتها، بقيت محتفظة برونقها، بتباين ألوانها الجميلة، لكن كل ذلك الوهج الباذخ كان يختفي بمجرد أن يبدأ زئير الحرب.. الحرب التي ابتدات بعد أعوام طويلة من طفولتي لم تغير ملامحها، كما لم يغير اليمنيون ملامحهم، وكنت منهم، امرأة سمراء تبحث في دهاليز الكلمات عن حرف يطفئ لهيب الحرب، امرأة تجري مع التيار لكنها لم تتوقف للحظة عن تأمل الحلقة التي تعصر كل شيء محاولة تحطيم الفسيفساء الاستثنائية التي نشكلها.

لماذا لايزال صوت الحرب هو الأقوى وصوت الموت هو الأعلى وصوت الخراب هو الحقيقة التي يجب أن نواجهها كيمنيين نسوا حكمتهم منذ زمن طويل؟

على الرغم من بحثي الطويل لم أجد إجابات مقنعة، كلها كانت مزيفة، حتى تلك التي تعلمناها في المدارس، وفي المساجد، وفي المنظمات، وفي الشركات، الجميع يلوك إجابة مقلدة، ولم تكن اي إجابة من تلك الاجابات هي الاجابة الصحيحة، لم أتخيل أن بحثي سيطول بهذا القدر، لكني لم أمل، ووجدت ضالتي بعد فترة عندما نصحني أحدهم بأن أتخصص. كنت قد أكملت مرحلة الجامعية، لذا عندما بدأت مرحلة التخصص في الماستر كانت الفسيفساء نصب عيني، لكن اللون الأحمر هو الذي غلب عليها هذه المرة، الحرب التي ابتدأت ذات صيف فجأة ثم توقفت باتصال هاتفي بقيت تلح في عقلي، لذا عندما اقترح علي الدكتور المشرف أن أتخصص في دراسات الديمقراطية علها تكون العلاج الأنجع للفسيفساء التي في رأسي وافقت على الفور، لكن الحرب الحمراء بقيت هناك تتربص بي، تسرق ألوان الفيسفساء وتحولها إلى قطعة لهب متشظية.

لم اتأخر كثيراً ، بعد شهرين ونصف أخبرت المشرف أني سأغير الموضوع وأسأدرس الحرب، ابتسم بزاويتي فمه، ولم أقف عن تلك الابتسامة الساخرة، بدأت بدراسة تلك الحرب القديمة التي يسمونها حروب صعدة، أحد صديقاتي كانت من انصار تلك الحرب، وصديقة أخرى كانت ضدها، وكنت في الحياد، وكم اكره الحياد لكني في تلك اللحظة سكنته لاني لم أكن قادرة على فهم شيء، وعندما بدأت البحث أدركت أني سأفهم كل الحكاية، سأصبح قطعة مشرقة في تلك الفسيفساء، تماماً مثل سيف بن ذي يزن، مثل معن ابن زائدة، مثل بلقيس وأروى والنعمان، قائمة من الاسماء التصقت بذاكرتي، وشحذتني بهمة استثنائية لأبدأ ذلك البحث الطويل، البحث الذي استغرق مني قرابة عامين، وعندما أنهيته وقفت طويلاً عن ابتسامة معلمي الأولى وابتسمت معه. يومها لم يفهم سر ابتسامتي، كما لم أفهمها أنا، لا انكر أني قد استفدت من هذه التجربة الاستثنائية، على الاقل فهمت سبب توقف الحرب وابتداءها بمجرد اتصال عابر! لكني لم افهم حتى الآن لماذا لازال صوت الحرب هو الأقوى، وصوت الموت هو الأعلى، وصوت الخراب هو الحقيقة التي يجب أن نواجهها كيمنيين نسوا حكمتهم منذ زمن طويل.

لأكثر من ثلاثة أشهر ألح علي المشرف لأعدل في الرسالة، كان يتحدث عن التراكيب اللغوية، عن حجم الخط وطول الصفحة، وتناسب الهوامش وصحة معلوماتها، وكنت أجلس أنا خارج الصورة تماماً، أحد صديقاتي تخبرني أن في العالم الأول، العالم الذي يعيش معنا على نفس الكرة الأرضية، يأكل البطاطس ويشرب الماء ويتنفس الهواء، في ذلك العالم لا يبحث المشرف عن حجم الخط ولون الصفحة، بل يبحث عن مضمون الصفحة، تخبرني بأنها مستمتعة بما تقوم، لأنها بعد أن تناقش رسالتها ستعمل على تطبيقها في أرض الواقع.

سأكمل شغفي من مدرسة الحياة، الحياة التي تخبرني أن الفسيفساء مهما تحطمت تبقى جميلة طالما أنها احتفظت بألوانها الأصلية

أنهيت اليوم التعديل النهائي في البحث، ابتسم لي المشرف بشكل حقيقي هذه المرة، لكني لم أتمكن من تحريك شفتي ولو بزاوية واحدة، كنت واجمة كقطعة رمل صحراوية تكلست بالجليد، اكتشفت بعد هذه الأعوام أني كنت اسير ضمن الدائرة المفرغة التي تلقننا ولا تعلمنا، تحشوا رأسنا بالتفاصيل ولا تفهمنا، تحركنا ولا توجهنا، تدفعنا إلى اتجاه مستقيم، ونسير مسرعين، لنكتشف في الأخير أننا لسنا في الطريق الصحيح. ستكون مناقشتي قريباً يخبرني المشرف، لكني لم اعد أحمل هم نقاش مضمون البحث، بل الفكرة التي في رأسي، الفكرة التي بإمكانها أن تنقذ ما يمكن إنقاذه من قطعة الفسيفساء الجميلة، القطعة التي يراها الجميع مجرد قطعة زجاجية مهشمة، لازلت اراها قطعة فسيفساء ثمينة تشبه تاج بلقيس، وعرش أروى،تشبه نظرة الثلايا وابتسامة الزبيري، تشبه باعة البن والعقيق في صنعاء القديمة، وتشبه كحل نساء الصحراء والساحل، تشبه خضرة الجبال وزرقة السماء، تشبه ذهبية الصحراء ولمعة القمر، تشبه رائحة البخور والشاي العدني، تشبه أشياء كثيرة لم أتمكن من سردها في البحث لأنه لم يتطابق مع شروط النشر.

رغم خيبة الأمل التي لم أتمكن من أخفائها، لازال شغفي يقودني إلى وجهة أخرى، هذه المرة لن تكون وفق شروط النشر والمعلم، بل ستكون هنا من مدرسة الحياة، الحياة التي تخبرني أن الفسيفساء مهما تحطمت تبقى جميلة طالما أنها احتفظت بألوانها الأصلية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.