شعار قسم مدونات

حقائب فارغة.. حقيبة (2)

blogs - airplane - travel
كنت سعيدًا بعودتي … وكان كل شيء يرحب بي على طريقته..
حتى موظف الجوزات الذي غادر كرسيه ليقف جانباً يمازح أحد زملائه، وتركني متسمرًا – لربع ساعة- والمسافرون من خلفي عند منصة الدخول في المطار، ننتظره ليلقي نظرة على جوازاتنا ويضع عليه ختم الدخول؛ هو أيضاً كان يرحب بعودتي، ويؤكد لي أن كل شيء لازال على حاله.

كنت سعيدًا جدًا.. عندما انتزع أحدهم حقيبتي من يدي، وجذبني بعنف حتى كدت أسقط، ليفتح باب سيارته الخاصة، ويرغمني على الدخول وهو يصيح في وجوه آخرين تحلقوا بي عند بوابة الخروج: "لا احد يقربه، هذا زبوني!" قبل أن أدرك أنه سائق تاكسي، وإن لم تكن هنالك أية علامة تشير إلى ذلك! هو الآخر كان يرحب بي، لكن على طريقته.

"الله لا يغير علينا" قاطعني سائق التاكسي وكأنه كان يستمع إلى ما يجول في خاطري من تساؤلات!

كنت مبتهجاً حد الرضا.. وشمس الحجاز تكوي جلدي كلما اقتربت يدي من نافذة السيارة، ونحن في طريق العودة من المطار، وكأن الشمس الحارقة، وجهاز التكييف الذي كان ينفث هواء أشد حرارة من ريح السموم، قبل أن يقفله سائق التاكسي، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة ماكرة ويقول: "شكله خربان"؛ كأنهم جميعهم أرادوا أن يحيوني تحية ساخنة، تذيب جليد الغربة الذي يبّسَ أضلاعي وأكسبني مزاجًا باردًا..

مضت عشرون دقيقة، قلبت خلالها مئات الصور في مخيلتي:
ترى، كيف أصبح حيّنا؟ وكيف هم جيراني؟ وهل سيستقبلني حارس العِمارة حليم ليحمل حقيبتي كعادته؟.. رغم أن كل شيء في الطريق ما فتئ يؤكد لي أن شيئاً لم يتغير، إلا أنني لازلت في قمة السعادة ..

"الله لا يغير علينا" قاطعني سائق التاكسي وكأنه كان يستمع إلى ما يجول في خاطري من تساؤلات! واستأنف حديثه: "ياخي ساهر ذا مشكلة!"
قلت: ما هو ساهر؟
أجابني وهو يهز رأسه مستنكرًا جهلي! وقد علت محياه ابتسامة ساخرة هذه المرة: "ساهر مصيبة ابتلانا بها الله، تسحب فلوسنا وتنغص علينا عيشتنا.. كاميرات يحوطنها في أماكن مخفية على الطرق تصور السيارات المسرعة".
قلت: ولماذا سمّوها ساهر؟
قال: " لأنها تسهر طوال الوقت تلم وتحصي أموالنا" واستحالت ابتسامته الساخرة إلى قهقهة وسُعال!
سألته إن كانت صورته؟
فأومأ رافعًا حاجبيه إلى الأعلى، وطرقع بلسانه نافيًا ثم قال: "لا، أصلاً أنا مغطي اللوحات! بس ليه أبلشونا؟ إيييه، الله لا يغير علينا بس".

أدرت وجهي إلى الاتجاه الآخر، ورحت أقلب نظري في تلك الأرض الجرداء القاحلة وقد انتصبت على أطرافها سلسلة من الجبال البركانية، انتظمت كأنها عقد من العقيق الأسود، تشَكّلَ ليُزيِّن صدر الرمال.

تضاريس قاسية وعرة متعرجة، تشبه في قساوتها تجاعيد وجه الشيخ عدنان، جارنا في الحي، رجل طاعن في القِدم، جَلدٌ وقوي وعزيز نفس، لا يعرف التبسم إلى وجهه سبيلا. تختزل ملامحه معاناة مئة وعشين نكبة، وخمسة أولاد، كان أكبرهم معاقاً، وأصغرهم مدمن مخدارت، وأشجعهم أبنه مفرّح – صديق طفولتي- الذي تخرج من الابتدائية ليلتحق بالجيش، قبل أن يأتينا خبر وفاته في الحرب على الحدود الجنوبية.

واصلتُ التفكير في حينا والجيران والحلاق مروان وحكاياته المألوفة، التي كان يعيد سردها على مسمع كل زبون يجلس على كرسي الحلاقة

ومصلح الشاب المتدين، لا أتذكر من ملامحه سوى لحيته الكثة التي غاب فيها وجهه، كانت صيحاته في أوقات الصلاة ترعب الحي كله، وتجبرنا على قطع لعبنا لنلتحق بصفوف المصلين في المسجد بلا حتى وضوء! ترك مصلح الحي بعد أن تشاجر مع والده الشيخ عدنان، واتهمه بالكفر لأنه سمح بإدخال "الدش" إلى المنزل!.

أما سمير – الشاب المتعلم- فقد تزوج من أجنبية تعرف إليها على أحد شواطئ المجمعات السكنية المغلقة بأرامكو، حيث كان يعمل. كم كنا نتلهف للقائه نهاية كل أسبوع، ليحدثنا عن مغامراته الشبقة خلف تلك الأسوار العالية.. هاجر سمير مع زوجته بعد أيام من زواجه السرّي وانقطعت أخباره، لتموت أمه – من بعده- حسرة عليه وعلى إخوته الأربعة. لكن ذلك الشيخ لازال يحطم الأرقام القياسية في الجلَدِ والصلابة، وطول العمر.

واصلتُ التفكير في حينا والجيران والحلاق مروان وحكاياته المألوفة، التي كان يعيد سردها على مسمع كل زبون يجلس على كرسي الحلاقة. من يستطيع مغالطته حينما يغير أسماء أبطال حكاياته تلك، فهو أعلم بقصصه وأكثر خبرة في الحياة، وعليك فقط أن تسلم أذنيك لسرده، كما تسلم ذقنك لموسه الحادة، وتصغي في خشوع. وماذا عن ذبيح الله الهندي صاحب الدكانة الصغيرة في طرف الشارع، ترى هل اشترى البقرة التي كان يحلم بها؟ ما ألذ أحلامنا البسيطة حينما تتحقق، وما أمرّ الواقع حينما يبخل علينا بها! كيف ستقابلني والدتي الحبيبة؟ وأخواتي اللائي كبرن في غيابي؟ وكيف ستكون ردّات أفعالهم حين أفاجئهم بقدومي؟

لازال دفء العودة يجري في عروقي..
التقطت صحيفة كنت قد اشتريتها عند أول إشارة مرور ضوئية استوقفتنا في الطريق، من طفل بائس ذو ملامح آسيوية، كان قد أصر أن يبيعني بعض العلك، وحين رفضت عرض عليّ الصحيفة، التي اكتشفتُ لاحقًا أنها من عدد سابق!.

لا يهم، فكل أخبار البلاد بالنسبة إلي جديدة.
»بعد استكمال قائمة المستحقين، وزارة الإسكان تعلن عن تاريخ بدء إنشاء الوحدات السكنية« صُعقت عندما قرأت هذا العنوان، وبدأت الدهشة تزعزع استقراري على المقعد، حتى أن السائق – الذي كان منسجمًا مع نغمات "السامري المسرعة" أوقف جهاز المسجل وبادر بسؤالي: "وش فيك خير؟!"

سألته بعد أن أعدت التأكد من الخبر وتاريخه: أليس هذا مشروع أم الجود؟ ألم تشرع الوزارة في بنائه بعد؟! اكتفى الرجل بالإيماء برأسه بأنهم لم يفعلوا بعد، وانحنى ليعيد تشغيل جهاز المسجل، لكن هذه المرة بصوت أعلى، وواصل الاستماع إلى ذلك النشاز الصاخب وكأنه أراد أن يغسل أذنيه من بقايا أسئلتي الغبية!

واصلت أنا بدوري قراءة الخبر، علي أجد أجوبة لتلك الأسئلة التي ما انفكت تتفتق في ذهني سؤال يتلو الآخر مثل تفتق زهور الياسمين الصفراء أوائل شهر إبريل من كل عام في تلك البلاد التي جئت منها. هذا المشروع ذاته كنت قد تقدمت للوزارة بطلب للأحصل على إحدى وحداته السكنية المزمع انشاؤها، كان ذلك قبل ثمان سنوات. لكن طلبي قوبل بالرفض – كحال الكثير من الطلبات الأخرى- لعدم توافر الشروط، تلك الشروط التي لم تكن معلنةً أصلًا!

تابعت التصفح سريعًا، فقد شارفنا على الوصول: »ميزانية بمبلغ كذا رصدت لمشروع كذا… وأخرى لإنشاء طريق سريع، وثالثة لإنشاء أنابيب الصرف لمواجهة السيول، ورابعة لسكة الحديد… زيارة الوفد الأمريكي … تصريحات وزير التجارة بمسماه الجديد« … ولا جديد، هي ذات التصريحات وذات المصرحين، والعناوين ذاتها لم تتغير، بل وذات الكُتّاب والأعمدة!… كل شيء على حاله.
الصحف هي الأخرى كانت ترحب بي على طريقتها..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.