كانت والدتي دائماً ما تقول لي : "حين كنّا في أعماركم كانت البساطة تغلب على أيامنا، لم نكن ندرك ونعايش العذابات التي يتجرّعها جيلكم والأجيال التي من بعدكم!".. وعلى الرغم من التسهيلات والتقنيات التي وصلت حتى إلى مخادعنا.. فإن هذه العولمة لم تأتِ بالتطور وحده، بل أتت به قابضاً على يد التعقيد الحياتي الذي فرض نفسه على أبناء هذا الجيل، الذي وإن بدا مترفاً إلا أنه يتحمل ضغوط الحياة التي تضاعفت مع الحروب وأزمات التشريد والتهجير والعطالة بين الشباب.
كل هذا إنما ينتج من الفتى والفتاة اللذان ينتميان إلى هذا الجيل، أقول إنما ينتج هذا إنساناً معبّئاً بالضغط ومحمّلاً بالمسؤوليات وفوق هذا وذاك.. أتت الحروب لتزيد الطين بلّة.. ليتحمل الشاب في بعض الحالات عبء ثورة وعبء وطن وعبء عائلة وعبء العطالة وشقاء البحث عن العمل.. وفي خضمّ كل هذا الصراع.. يبحث الانسان بهذا التعب الذي يهدّه عن مغتسلٍ بارد يخفف عنه أثقال كل ما كُلّف به، عن رغبة أو عن غير قصد.. فالبعض ينزع إلى الحب، وينزع الآخر إلى الجهاد، ويتصوّف البعض، ويداوي بعضهم نفسه بالعزلة والوحدة، ويغتسل البعض من أدران الحياة بالحبر والكتابة.
كُنتُ _ ودون أن أعلَم _ كنتُ أُخضع ذاتي إلى جلسة علاج مكثف بالتخلص من الألم وكل ما يدور في نفسي عبر الكتابة التي قد تنتهي في أسطر أحياناً |
على المستوى الذاتي، وعلى مدى سنوات.. كانت الكتابة طريقي للتخلص من أشدّ العذابات وأضناها.. طريقي للإفصاح عن كل الحكايا التي لا تُحكى، ولكل العبارات التي ألحقها وهي تلفظ النفس الأخير معلقة على مقاصل الصمت الأبدي.. ومنذ أن كنت في صفوف الإعدادي، كنتُ أسخّر حالات التجلّي في حصص الأدب والشعر لأن أخرج ما في نفسي في شكل أدبي كنت أعتقد حينها أنه منمّق.. و أكتبه على قصاصات ورقية صغيرة أو على هوامش كتاب الأدب لأجمعه في دفتر صغير بحجم الكف.. وبقيت على هذا المنوال حتى اليوم، حين ثارت ثائرة المدونات، عرفتُ أن لي في هذه الثورة ترياقاً، أمّا ما أراه خاصاً فكنتُ أقتني من أجله الدفاتر الصغيرة والكبيرة، وأنتظر إلى أن يضع اليوم رأسه على كتف الحياة متهيئاً للنوم.. لأستيقظ أنا وأكتب هذه الحكايا التي لا تنتهي.
والعليل بالكتابة لا تشفيه إلا الكتابة.. كنتُ أعرف أني كذلك وأنا أفتح الصفحة الأولى لكل مذكراتي اليومية وأنا أقرأ فيها: "أتداوى بالكتابة، ولكن.. حين لا توجد الكتابة.. فبأيّ شيءٍ أتداوى؟!".
ويقفز إليَّ كافكا قائلاً: "الكتابة هي انفتاح جرح ما" وأنا أعتقد أنها الشفاء من مرارةٍ ما!
ولم أكن أعي حين كنت أركض نحو هذا الخلاص، تلك الخلفية العلمية التي عرفتها مؤخراً والتي تقف وراء هذا التحرّر وهذا الخلاص الذي أحصل عليه فقط من خلال الورقة والقلم.. كانت الكتابة الوسيط الهادئ والحنون الذي يقف بين عقلي وقلبي.. كنتُ ألقي بكل ما يثقلني في بحار بيضاء.. يتمثّل بياضها في النتيجة التي تصل إليها نفسي أخيراً بعد انتهاء المهمة الشاقة في التخلص من أغلال الضيق التي كانت تقيّد يديّ وقدميّ.. وكان اللجوء العفوي إلى كتابة اليوميات إنما هو حاجة فطرية إلى التفريغ عن كل ما يعتلج في الذات من مشاعر و تناقضات و أفكار و خفايا..
وهكذا فقد كُنتُ _ ودون أن أعلَم _ كنتُ أُخضع ذاتي إلى جلسة علاج مكثف بالتخلص من الألم وكل ما يدور في نفسي عبر الكتابة التي قد تنتهي في أسطر أحياناً وقد تمتدُّ إلى صفحات أحياناً أخرى.. حتى قرأتُ ما عاينه الروائي كارلوس ليسكانو حين اتخذ من الكتابة مخرجه ليتخلص من العذابات التي عايشها بعد وفاة والديه ، وليتخلص من الضيق الذي تخلقه الزنزانة، لينتهي به الأمر روائياً و كاتباً: "الكتابة كانت بالنّسبة إلي طريق النّجاة الوحيد لأحيا.. لم أكن كاتباً قبل دخول السّجن، وبين جدرانه وفي عزلتي بداخلها ولد فيّ الكاتب".
و قبل أن أكتب هذه التدوينة لم أكتفي بالنتائج الشخصية لهذه التجربة وإنما تطرقت في بحثي إلى الخلاصات العلمية لهذه التجربة التي صار الأطباء النفسيون يعمَدُون إليها في التعامل مع مرضاهم.. وفي مرّات كثيرة وبحسب ما أعلنه هؤلاء الأطباء، كان النجاح غالباً حليف هذه التجارب.
الكتابة اليومية أو المتكررة بضع مرات في الأسبوع انما تتبنى دور المختص النفسي الذي يخلصّك وبسرية تامة لن يطلع عليها أحد سواك |
إن الأمر الذي نتعامل معه على أنه فعل غريزي وربما حاجة ترفية في بعض الأحيان، إنما هو منهج علمي متكامل بدأه في الستينات الدكتور إرا بروغروف الذي طوّر نظرية "طريقة كتابة اليوميات المكثفة" والتي تعتمد على الانكشاف الذاتي والتعبير الشخصي الذي يستند إلى رعاية منتظمة ومنهجية للانعكاس النفسي للمذكرات، وعلى مدى سنوات أصبح تسجيل اليوميات وتقييدها طريقة شائعة للكتابة العلاجية وأداة أساسية لمراقبة النمو والتطور الذاتي، والأمر بالتأكيد لا يعتمد على صياغة منمقة أو فنية أو أدبية للكتابة، بل يعتمد أولاً وأخيراً على التخلص مما يعتلج في النفس، بالكتابة تحت أي صياغة ركيكة كانت أو محكمة.
دراسة مؤخرة أجراها الدكتور آرنولد فان ايمريك من جامعة أمستردام، أكد فيها بعد التجربة أن الكتابة قد ساهمت في تقليل الاضطرابات التي تصيب الإنسان بعد الصدمات الكبرى في الحياة، وخففت من درجات الاكتئاب الحاد لدى كثير ممن خضعوا للدراسة.
إن الكتابة إنما تخلص الكثير منا من صعوبة اللقاء وجهاً لوجه مع المختصّ النفسي، سواء في صعوبة التعبير اللفظي عن الألم والمشاعر النفسية أو في صعوبة تقبل المجتمع والمحيطين فكرة اللجوء إلى المختص النفسي، أو القناعة العامة في الخلط بين الضغط النفسي والأمراض العصبية والجنون.
لذلك فإن الكتابة اليومية أو المتكررة بضع مرات في الأسبوع انما تتبنى دور المختص النفسي الذي يخلصّك وبسرية تامة لن يطلع عليها أحد سواك.. المهم أن لا يبقى الإنسان تحت ضغط نفسي إنما يجعل منه عرضة للمضاعفات النفسية وربما الجسدية التي تنعكس على حياته و تعامله مع ذاته ومع الآخرين.. الأمر بسيط جداً.. اجلب قلماً و دفتراً .. وا بدأ طريقك نحو التداوي الذاتي بالكتابة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.