شعار قسم مدونات

أثر الإسلام الحضاري على الأمم – الصليبيون والمغول

blogs - taj mahal
من كان يتخيل أن تتحول أمة سفكت دماء ملايين البشر وأقامت أبراجاً من الجماجم وجسوراً من الكتب.. حتى أصطبغت أنهارا كدجلة بلون الدم القاني وأحبار الحضارة النفيسة، إلى أمة إعمار وعلوم وفنون أثيرة، أو أن ينطلق عصر نهضة في فترة وجيزة في أوساط أناس نسوا التمدن ومعاني الإنسانية السليمة حتى أكلوا جثث أعدائهم.تحول عظيم وتاريخي كهذا حدث فعلاً باحتكاك الصليبيين والمغول بالمجتمعات الإسلامية وموروثها الحضاري الكبير.

لقد ترك الاحتكاك المباشر بين المسلمين وهذه الشعوب أثراً إيجابياً لافتاً ونقلها إلى مستوى أعلى من الأداء الإنساني

بدأت التوأمة بين الإسلام والحضارة الإنسانية منذ لحظات البداية في غار حراء مع أولى نفحات الرسالة (إقرأ)، حيث أرسى الإسلام أساساً حضارياً بتأكيده على أن الإنسان هو خليفة الله في الأرض، وأن دوره وجوهر وجوده هو إعمار هذه الأرض بالخير والتفكر الدائم و دفع عجلة الحياة سعياً وبحثاً فيما يوصل لخير البشر وسعادتهم في دنياهم وأخرتهم.

ولعل أجمل مزايا المنظومة الحضارية والفكرية الإسلامية أنها أحدثت تغييراً إيجابياً في حياة الأمم ابتداءً بالعرب أنفسهم والذين تحولوا من قبائل متناثرة تعيش جاهلية وتناحراً وأشكالاً معقدة من التأخر والتبعية، إلى أمة لها هوية ورسالة وفكر ودول. و لم يقتصر الأثر على من حمل الإسلام كرسالة بل فيمن عاداه و حارب شعوبه كالصليبيين والمغول.

لقد ترك الاحتكاك المباشر بين المسلمين وهذه الشعوب أثراً إيجابياً لافتاً ونقلها إلى مستوى أعلى من الأداء الإنساني. جاء التواصل الصليبي مع المسلمين في الشام والأندلس وصقلية. وشكلت هذه البقع الجغرافية جسراً حضارياً غريباً تلفه الحروب العنيفة. لم يكن الصليبيون يقاتلون في وقت الحرب إلا ويتعلمون دروساً جديدة وقت السلم. نقل تجار بيزا وجنوى ما وصلت إليه الصناعة و الزراعة في الشام والأندلس. وانتقلت منجزات العلوم الإسلامية بالترجمة كما حصل في طليطلة الأندلسية إبان سقوطها بيد الإسبان الذين كانوا يرون في أنفسهم صليبيي الغرب، حيث أصبحت المدينة التي بقي فيها أهلها من المسلمين إلى جانب اليهود والوافدين الجدد من النصارى، مركز بحث علمي ودار نشر موسعة تترجم نفائس العلم والفكر.

وكانت الطريقة الأخرى لانتقال الجديد تكمن في مشاهدة أعمال العلماء المسلمين كالأطباء مثلاً بشكل مباشر، كما حدث في معالجة طبيب صلاح الدين الأيوبي مرة لريتشارد قلب الأسد ملك إنكلترا الصليبي. أو في عمل الشريف الإدريسي في بلاط روجر الثاني في صقلية حين ألف له كتابه الجغرافي الشهير (نزهة المشتاق في اختراق الأفاق) ورسم له خريطة دقيقة للعالم القديم.

ولم يكتف الصليبيون بالجوانب المادية بل تأثروا أيضاً بالجانب الأخلاقي لدى المسلمين واحترام مواثيق الحرب والفروسية. أحد الأمثلة التي احتكوا بها كان الفارس المقدام أسامة بن منقذ والذي صادق العديد من الصليبيين وقت السلم رغم قتاله لهم في ميدان الحرب. وكان يزور بيت المقدس تحت الإحتلال الصليبي من فترة لأخرى وشكل أمثولة للفروسية والشجاعة والأخلاق للصليبيين والمسلمين على حد سواء.

هذه السلالة شهدت معها الهند ابتداءً من القرن السادس عشر الميلادي أزهى عصورها من العمران والقوة الاقتصادية والفنون

ومن خلال هذه التفاعلات الإيجابية، تهذبت نفسية الإنسان الأوروبي بعد وصولها لحد أكل لحوم المسلمين وأطفالهم في مجزرة معرة النعمان الشهيرة أثناء زحف الحملة الصليبية الأولى نحو القدس، وارتقت إلى طور أكثر إنسانية واحتراماً لأصول الحرب والتعاملات الدولية وتقديراً لمعنى الحضارة والعلوم.

أما الصورة التي أراها أكثر وضوحاً للتأثر الحضاري فقد كانت مع المغول. أعنف أشكال الغزاة وحشية ومن أشدهم تخريباً وإفساداً على مدى التاريخ الإنساني. المغول الذين دمروا مراكز الحضارة الإسلامية وكان اكتساحهم للشرق أحد الضربات المؤثرة التي ساهمت في توقف عجلة الحضارة في القرون التالية وركود حركة الفكر. بعد إسلامهم الذي ابتدأ في القرن الثالث عشر للميلاد واحتكاكهم بالمسلمين في وسط اسيا وإيران والعراق والشام، تغير اتجاه هذه الأمة بالجملة وخرجت نخبة جديدة من حكام المغول حسنة السيرة محبة للعلوم والفنون، راعية لها. فمن هؤلاء كان أولوغ بك من نسل تيمورلنك، وهو عالم فلكي وباحث في الرياضيات، أقام مرصداً فلكياً عظيماً في سمرقند لا يزال حتى اليوم قائماً، ومنهم أيضاً برز مغول الهند المسلمين، وهم سلالة تعود في نسبها نحو الأعلى إلى تيمورلنك وجنكيزخان، السفاحين الشهيرين.

هذه السلالة شهدت معها الهند ابتداءً من القرن السادس عشر الميلادي أزهى عصورها من العمران والقوة الاقتصادية والفنون. فرأينا تاج محل والقلعة الحمراء وتحف المساجد التي بناها شاه جهان و أورنكزيب وفنون الشعر الفارسي والمنمنمات والمجوهرات التي تحفل بها متاحف العالم اليوم. وزبدة القول في تحولهم ما وصفه المستشرق الفرنسي غوستاف لوبون حين قال:
(وسار المغول على غرار المسلمين الأخرين، فأداموا حضارة هؤلاء، محبين للأداب والعلوم والفنون حباً جماً. فرحبوا بالعلماء والشعراء ورجال الفن مهما كان جنسهم. ولا تزال المباني التي شادوها تثير العجب. ولم تكن العلوم دون الفنون حظوة في دولتهم، فأنشأوا المدارس و أقاموا المراصد).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.