ثم أدركوا متأخّرين الحقيقة المرّة فأقدموا على خطوة تقل غباءً عن سابقاتها: إنشاء قنوات فضائيّة بحلة جديدة و إيهام العامّة بأنّها خاصة مستقلة تتمتّع بقدر كافٍ من الحريّة، شرعت تتناول قضايا لم يعتد الشعب على مناقشتها إلا في الاجتماعات الضيّقة و على استحياء، لكنّ هذي الحرية المزعومة بقيت ضمن حدود الرّقابة، بحيث لا تمس (الحُرمات) و على رأسها شخص القائد (المقدّس).
إن الإعلام المحايد كذبة كبرى؛ فوسائل الإعلام جزء متحيز للحقّ و ثانٍ واقف في صفّ الباطل و آخر متأرجح حسب مصالح المموّل يتعاطف مع ثورة هنا و يطبّل لمجرم هناك |
وعندما استشاط الشعب ثورة، كان لا بدّ لجميع وسائل الإعلام داخل الوطن -سواء أكانت رسميّة أم شبه رسمية- أن تعيد الناس إلى زريبة الطّاعة بشتى الطّرق الترغيبيّة و الأساليب التّرهيبية فلم تفلح؛ أنّ زمن الرأي الواحد قد ولّى، و كان بالمرصاد إعلام نقض (إمبراطوريّات) الطغاة و زلزل العروش و قضّ المضاجع، و نبّه الشارع إلى أمور كان مغيّباً عنها، كما قتل الخوف في مكامن النفوس، إلى أن اعتاد المرء الانتقادات اللاذعة بحق الطّاغوت و أزلامه و استمرأ شتمهم و تقريعهم، بعدما كانت ركبتاه تصطكّان؛ لمجرد التفكير بهم؛ لذا دأبت الديكتاتوريّات على التحذير المستميت من الإعلام (المغرض)، و أخذ العقل المخابراتيّ الصدئ ينسج القصص السخيفة حولها، ثم أتى دور التشويش و منع وصول بثّها مهما كلف الأمر، في محاولة يائسة للنكوص و جرّ الثائرين إلى ديجور الماضي.
إلا أن الشعب ارعوى عن جهله و أدرك الخديعة التي عاش في ظلالها عقوداً، فأسّس الإعلام البديل و صار المواطن العاديّ مراسلاً حربياًّ مسؤولاً عن نقل أحداث التحوّل العظيم، وانبثّ الناشطون في طول البلاد و عرضها؛ للتغطية و التوثيق و فضح موبقات المحاصَرين بالثورة الذين اشتد الخناق عليهم، فلم يعد أمامهم إلا سفك الدّماء و التقتيل الجنوني حتى أضحى الإعلاميّون الثوريون مقاتلين حقيقيّين و أبطالاً أسطوريين، مستهدَفين من الحكام المتساقطين و الخوارج المتطرّفين الذين لم يرق لهم وجود إعلام حرّ يوثّق تجاوزاتهم و يفضح غيّهم و إفسادهم في الأرض و فرض أفكارهم الظلاميّة على الشعب الواقع بين مطرقة الباغين و سندان الجماعات المسربلة بقميص الدين دون أن يجاوز إلى صدورهم.
إن الإعلام المحايد كذبة كبرى؛ فوسائل الإعلام جزء متحيز للحقّ و ثانٍ واقف في صفّ الباطل و آخر متأرجح حسب مصالح المموّل يتعاطف مع ثورة هنا و يطبّل لمجرم هناك، إذ لا مراء أن الإعلام بات سلاحاً بالغ الأهمية تخاض به الحروب العالمية الضروس بلا قطرة دم؛ لقلب الرأي العامّ، من هنا علينا أن نعي مسؤوليّتنا في تحسين الخطاب الإعلاميّ الثوري في مواجهة خبث الإعلام العالميّ؛ لإخراج كلّ منّا من شرنقته و إشعال انتفاضة في العقول تنظفها من الشوائب، و تقول للمظلوم: هذا ظالمك أمامك، فانظر ماذا تصنع.
بمناسبة التطرق إلى الإعلام العالمي: هل تعلم أن مذيعة (سي إن إن) التي (بكت) عمران قالت في معرض (بكائيتها): لا نعلم من كان وراء قصف منزله؟!
ما أقبح الدموع حين تكذب!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.