في الوقت الذي تصلك بلدان العالم بما تشتهر به من صناعاتٍ وإنجازاتٍ علمية وحضارية، لا يصل من بلدك شيءٌ للعالمية، ولا يُمكن نسب أحد مظاهر الإنسانية والمدنية إليه، فعندما تقدم البرازيل كُرتها، وألمانيا سياراتها، واليابان اختراعاتها، وسويسرا ساعاتها، وفرنسا أجبانها، أكثر ما يقدمه وطنك للبشرية هي الحرب والدمار والفوضى، وفي أفضل الأحوال يُعرّف على أنه بلدٌ في الشرق الأوسط المشتعل، بؤرة الفساد والإرهاب.
حقيقةٌ لا يُمكن إنكارها، ولا مجال لتجميلها، ذلك أن الصفة غلبت الموصوف وتاريخ النزاعات في المنطقة بات وصمةً تعريفية وبصمة هوية على مدار الزمان، فما جاء على هذه الأرض حكّامٌ إلا أفسدوها وطردوا أخيار أهلها خارجها، ومارسوا العبودية بأشكالٍ مختلفة على مَن بقي فيها.
بعدما يدميك الوطن خارجه، تبدأ بربط نفسك كرهاً وطواعيةً بسلسلةٍ من الأشواق والحنين، والذكريات والماضي |
هذه البلاد التي أنجبت طغاةً احتاروا باختيار الصيغة الأكثر وحشية للعن شعوبهم، وسفك أمالهم أدراج الرياح، واستخدموا في إغراق مواطنيهم ما لم تسمعه أذنٌ من مآسٍ، وما خطر على قلب بشرٍ من قصاص، وإذا ما حاولت الشعوب رفع غطاء الظلم عن أنفاسها، جاءها الموت على أبشع الهيئات، وكانت مقصلات الحكّام على أهبة الاستعداد لدقّ أعناق الثائرين.
في تلك البلاد المُتعبة، تجد المثقف يعاني التهميش، والعالِم يكابد الاستخفاف، والفقير يناضل لكَسرة رزق، والشاب يسعى وراء شبابه المهدور لبناء حُلمٍ صعب المنال، وعن تلك البلاد المُتعبة، تجد المغترب يئن بأشواقه، والمنفي يعيش ذكرياته، والمسافر يحمل الغربة وزراً ثقيلاً على أيامه، فيضيع الوطن بين مَن يَبكيه ويُبكيه.
وبعدما يدميك الوطن خارجه، تبدأ بربط نفسك كرهاً وطواعيةً بسلسلةٍ من الأشواق والحنين، ويتحول مسقط رأسك إلى حقيبة من الذكريات والماضي، وأطلالٍ على شرفات الأيام الخالية مع الأهل والأصدقاء والصحب، وعندها تحل عليك الطامة الكبرى وتدخل دوامة الحزن على ما فات من سنواتك فيه.
أوطاننا لم تعطِنا ما نحتاجه من مقومات الحياة وأساسيات النجاح ومفاتيح المستقبل، غضت الطرف عما يحمله رحمها من طاقاتٍ وعقول زحفت إلى بلاد الاغتراب لتعيش حريتها، وتركت أرضها الأم سجينة في زنزانات الطغاة والظالمين.
أوطاننا حرمتنا لذة الاستناد على قوتها الدولية، ورفع الرأس فخراً بالانتماء إليها، بل حولت هوياتنا إلى قيودٍ ترفضها معظم دول الأرض ولا ندري للتخلص من وزرها سبيلاً.
أوطاننا أخذت من فكرنا حريته، ومن إبداعنا شعلته، ومن طموحنا مستقبله، وأبدعت في قص أجنحتنا كي لا نعلو فوق سقف الوطن الآيل للسقوط إذا ما تكاثفت أيادي الأحرار والحالمين بفسحةٍ لا يحدها سقف ولا يعتليها قفص.
رغم جفائها وقسوتها وعزوفها عن احتضاننا، نبقى نحبها ونحب مَن بقي فيها.. |
أوطانٌ نحبها لأنها بستان ذكرياتنا وطفولتنا، فيها وقعنا في الحب الأول، وحفظنا الأبجدية لحناً في كلماتنا، فيها اجتمعنا أعياداً مع أقاربنا وأحبائنا، فيها تركنا صندوق ألعابٍ مُهمل وأوراقاً تحمل قصصاً وحكايات، فيها تلقينا فشلنا الأول ومن بعده توالت الخيبات، فيها تعلمنا أن الأرض عرضٌ والدفاع عنها واجبٌ حتى الممات، وفيها تلاطمت أحلام الصبا الوردية مع صقعة الواقع المُر وبعدها كثُرت الصفعات..
لا ذنب لنا في حبها سوى إيماننا بالمبادئ السامية لنهضة الشعوب، والكلمات العريضة في العدل والمساواة وإعطاء المقال الصحيح لكل مقام، فكان الموت حباً وغرقاً ونفياً وظلماً قدرنا الوحيد، نحبها لأن لا ماضٍ لنا سواها، كُتبت علينا كما كُتبت على آبائنا وأجدادنا نَسباً نهرب منه وقت العنف والخوف، ونمسك به عند الحنين والضعف..
ورغم تجاهلها مستقبلنا، نذود عنها في الغربة ونحميها.. ورغم إيصالها شعوبها حافة انفصام المشاعر وتشتت الرؤية، نذكرها بالخير وبالأمل نسقيها.. ورغم جفائها وقسوتها وعزوفها عن احتضاننا، نبقى نحبها ونحب مَن بقي فيها..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.