ليلة التاسع عشر من نوفمبر، أين كنت؟ إنها 19 نوفمبر 2005 وأنا في سن العاشرة، أقيم في باريس، نصف حياة بعيداً عن فهم مسؤوليات البلوغ: العمل، ودفع الإيجار، وفواتير الحياة التي لا تتوقف أبدا. الشيء الوحيد الذي كنت أشعر به، هو السرور، ولماذا لا يجب أن أكون، تلك هي المرة الأولى التي رأيت فيها السحر أمامي!
كانت إجابته صادمة بالنسبة لي، سامر رياز أفضل من وصف إحدى أعظم لقطات الكلاسيكو على مر تاريخه، الكاتب المتيم بألوان البلاوغرانا عبر شبكة "توتال بارسا"، رصد هذه اللحظة الصوفية التي لا تتكرر كثيرا، برشلونة وريال مدريد في ملعب سانتياغو برنابيو، كل الملعب في حالة اندهاش تام، وجزء من الحضور ينتفض لتحية أحدهم، كل هذه الأمور طبيعية وعادية، لكن الغريب حقا أنهم كانوا يشكرون الخصم اللدود، عشاق الملكي انبهروا بما قدمه رونالدينيو، ووقفوا خصيصا للتصفيق له!
احترف غاوشو كرة القدم بسبب أبيه، مثله الأعلى الذي توفى مبكرا وأطلق عليه هذا الاسم تمينا بزعيم برازيلي أحبه |
في رائعة كريستوفر نولان "ذا برستيج"، تحدث الفيلم البديع عن جوانب خفية تخص السحر.. يُكمل "سامر" حديثه العذب قائلا، العالم بأجمعه حينما شاهد هذا الفيلم، أصيب بمزيج من الدهشة والذهول، لكنني لم أتأثر مثلهم، أتعرفون لماذا؟.. لأنني شاهدت سحراً من قبل، بالتحديد في ليلة لا تنسى من ليالي باريس الباردة، بالطبع لم تكن باردة بل مشتعلة في مدريد، حيث فعلها رونالدينيو وبكل عبقرية.
"كل خدعة سحرية تتكون من ثلاثة أجزاء، أو أفعال، الجزء الأول يسمى الارتباط أو الوعد حيث يريك الساحر شيئا عاديا.. لعبة، طائرا، أو رجلاً، يعرضه عليك وربما يطلب منك فحصه لتتأكد أنه حقيقي، طبيعي وغير معدل لكنه بالطبع ليس طبيعي، هكذا كانت القاعدة الأولى في الفيلم الهوليوودي الذي يتحدث عن ذلك المجال.
وفي كرة القدم، رونالدينيو عرض حذائه وقميصه، ولعب المباراة مثل غيره، بينما في الجزء الثاني أو ما يعرف بالتحول، أخذ الساحر هذا الشيء العادي وحوله لشيء غير عادي، فتبدأ بالبحث عن السر لكنك لن تجده، لأنك طبعا لا تفتش بجد فأنت لا تريد معرفة السر، وتحب أن تخدع!
حصل الدينيو على الكرة، من الصعب اللحاق به حينما يكون في يومه، ومن حسن حظ المتابعين وسوء حظ راموس ورفاقه أنه كان في أعظم أيامه.. يملك روني يملك الكرة، من المتوقع أن يدخل بها في العمق، لذلك قام المدافع بمد قدمه إلى الداخل، لكن البرازيلي فعل اللامعقول، وكسر بالكرة إلى الخارج، فخرج مدافع ريال مدريد بعيدا عن الكادر تماما، حاول المدافع الآخر عكس ما قام به زميله، هنا قام رونالدينيو بقلب الاتجاه، ودخل بالكرة إلى قلب منطقة الجزاء، وسكنت الكرة الشباك قبل أن يفكر كاسياس حتى في التفاعل.
أما الجزء الثالث والأخير أن تعيد الجزء المخفي إلى المسرح مرة أخرى، وهذا هو الأصعب، ما يتم تسميته بالعظمة، استلم الرقم 10 الكرة على نفس الطرف، هنا راموس لم يتحرك بعد، لا رمى نفسه على الكرة، ولا حتى حاول خطفها سريعا، اكتفى فقط بمعرفة ماذا سيفعل الآخر بالكرة.. رونالدينيو في المقابل يتصرف على طبيعته، كأن خصمه لا يرى، لا يشاهد، وبكل تأكيد لا يجري بجواره، مر منه كما يمر الريح في أعتى شهور العام تقلبا وعنفا.
انفرد القادم من كوباكابانا بالحارس كاسياس، سجل من جديد بكل هدوء وأريحية، المفاجأة بحق، والخدعة الأغرب أن جزء من جمهور البرنابيو قام من مقاعده، وقام بالتصفيق للساحر، في مشهد لم يتكرر من قبل، والسر في جاذبية هذا البرازيلي ذو الوجه الضاحك، الذي أجبر صديقنا المقيم في فرنسا على الكتابة عنه، وجعلني أتذكره من جديد وأسترجع هذه الكلمات التي تصفه بعد أن أعلن رونالدينيو رسميا أن هذا الموسم سيكون الأخير له في ملاعب الساحرة المستديرة.
احترف غاوشو كرة القدم بسبب أبيه، مثله الأعلى الذي توفى مبكرا وأطلق عليه هذا الاسم تمينا بزعيم برازيلي أحبه، لذلك انتقلت الجينات من الكبير إلى الصغير سريعا.. رونالدينيو أحب اللعبة لأنها أنقذت والدته من العمل الشاق بعد رحيل زوجها، الطفل الصغير أعاد الحياة إلى الأسرة بالكامل، للأم التي أتعبتها ويلات الحياة، والأخ الأكبر الذي فضل الوقوف بجانب أشقائه الصغار على الاحتراف في ملاعب أوروبا، أحلام بسيطة ترجمها النجم الكبير إلى معيشة أجمل للكل بلا استثناء.
ستظل هذه المجنونة تدين بالكثير إلى رونالدينيو وأمثاله، لأنهم خرجوا بها من التخصص إلى الابتكار |
الكرة بالنسبة للنجم البرازيلي هي المتعة، كان بمقدور رونالدينيو الاستمرار في التألق لفترة أكبر، لكنه اكتفى بما حققه، لا يتعلق الأمر بإصابة أو عدم تدريب أو قلة تركيز، بل هكذا أراد سيادة "مزاجه"، لأن صاحب السعادة حصل من الجلد المنفوخ على كل ما يريد، شهرة ومال ونفوذ وحب الناس، لذلك قرر الاكتفاء بهذا الإبداع مع المواصلة على طريقة الهواة.
لم يصف أحد جمال الكرة مثل إدواردو غاليانو، اللاتيني العاشق الذي قال عنها في كتبه "الاحترافـية تفعل كل ما ھو ممكن لتقلل طاقة السعادة بالقيود والقوانين وخلافه، لكن أفضل ما في كرة القدم قدرتها على الإدهاش، فمهما برمجها البعض بتفاصيل كثيرة، وأدخلها الكهنوت التكتيكي إلى عالم طويل من التعقيدات، ستبقى ترغب في أن تكون فن الارتجال"
لذلك ستظل هذه المجنونة تدين بالكثير إلى رونالدينيو وأمثاله، لأنهم خرجوا بها من التخصص إلى الابتكار، وجعلوها أقرب إلى العرض الجمالي رفيع المقام، الذي يجعل ملايين البسطاء حول العالم يتجمعون أسبوعيا، أملا في مجرد تسعين دقيقة تُنسيهم مآسي ومتاعب البيئة المحيطة، ومع صافرة الحكم معلنا نهاية العرض، يتحول الكل إلى منفاهم الإجباري من جديد، لكن دون نسيان مؤسس نظرية البهجة، رونالدو دي أسيس موريلا، أو رونالدينيو!