شعار قسم مدونات

روح مصر "المخنوقة".. عن أزمة المعتقلين والأفق المسدود

blogs - egypt
 
تتعدد المآسي والآلام في مصر يوما بعد يوم منذ انقلاب الثالث من يوليو/تموز عام 2013، لا تقف عند حدود مجال واحد أو ملف بعينه، فمن اقتصاد متدهور يئن تحت وطأة الديون المتراكمة داخليا وخارجيا ويدفع ثمن تدهوره شرائح كبرى في المجتمع، إلي أغذية فاسدة غير صالحة للتدال الآدمي نتيجة غياب الرقابة أو انتشار الفساد، إلى مصادرة المجال السياسي والاجتماعي لصالح فرد بعينه يكم الدولة من أعلى، وغيرها من المآسي الكثير والكثير، إلا أن أزمة المعتقلين برأيي هي الأشد قسوة، وأكثر الأزمات تعقيدا وتركيبا، وبدون حلها لا أظن أن ثمة أي أفق للحل في مصر أو انفراجة سواء اجتماعية أو سياسية أو حتى اقتصادية.
 

ولعله من المهم الإشارة إلي ما يميز أزمة المعتقلين في عصر عبد الفتاح السيسي، ويجعلها مختلفة عن أي عصور سابقة في مصر على مدى أكثر من 60 عام حكم فيها العسكريون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة البلاد وكانوا المتحكم الفعلي في مقاليد أمورها.
 

لعل حادثتي مقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني، والطالب أحمد مدحت كافيتين لتعرف ما جرى لغيرهما ممن لم يسلط الضوء الإعلامي عليهم

أولا: على غير العادة فأزمة المعتقلين لا تطال المنخطرين في العمل السياسي أو الإسلاميين دون غيرهم، كما جرت العادة في العصور السابقة التي كان المعتقلون من غير الجنائيين ينقسمون فيها إلي فئتين فقط، السياسيين بشكل مباشر والمنخرطين في العمل السياسي، والإسلاميين، أما الآن فيوما بعد يوم منذ 3 يوليو يكتشف الناس أسماء لا علاقة لها بالعمل السياسي من قريب أو بعيد، مجرد أفراد عاديون تصادف وجودهم في مكان لمظاهرة ما أو كان لديهم خلاف مع صاحب سلطة ما فقرر أن يلفق لهم تهمة سياسية تلقيهم في غياهب السجون، ولم يكن معروف من هذه الأسماء البرئية سوا من كانوا في قضية مشهورة تضم بعض المعروفين في العمل العام في مصر كقضية متظاهري مجلس الشورى أو قضية الحكم على قتلة خالد سعيد في الإسكندرية، بيد أن المنخرطين في العمل الصحفي الخاص بالمعتقلين يعرفون جيدا أن ثمة عشرات وربما مئات لا ناقة لهم ولا جمل في أي قضية، بل إن بعضهم كان من مؤيدي السيسي أو من خصوم الإخوان، ولم يصلوا إلي غياهب السجون إلا بالصدفة البحتة وبعضهم لم يخرج إلي الآن، هذا فضلا عن الصحفيين الذين كانوا يؤدون عملهم فقط في الميدان، كمحمود شوكان، المصور الصحفي المحبوس منذ فض رابعة حتى الآن، وغيره الكثير من الصحفيين.
 

ثانيا: بلغ عدد من طالهم الإعتقال منذ الثالث من يوليو حتى الآن ما يزيد عن 40 ألف معتقل، وهو رقم يكاد يجمع عليه كافة العاملين في العمل الحقوقي، وربما كان الخلاف في دقة الرقم ينصب حول هل وصل العدد إلي هذا الرقم في لحظة زمنية واحدة، أم أن هذا الرقم يشمل عدد من طالهم الإعتقال سواء ظلوا فيه أو أفرج عنهم بموجب حكم محكمة أو مجرد طالهم إخلاء سبيل، لكن هذا الجدل غير ذي طائل في ظل أعداد رسمية لعدد السجون الجديدة التي شرعت السلطة في بنائها وإعدادها بعد الانقلاب وبلغت 11 سجناً جديداً، فضلا أن الزيادة فوق العدد قليلا أو أقل قليلا لا تشكل فارقا في كونه الرقم الأكبر من حيث المعتقلين في عهد حاكم مصري بعينه.
 

ثالثا: لا يعد الإعتقال في عهد عبد الفتاح السيسي عاديا، كأن تذهب الشرطة للقبض على فرد ما وتضعه في السجون، بل تختلف أزمة المعتقلين هذه المرة بمصاحبة الإعتقال لإختفاء قسري للمعتقل، فمئات المعتقلين لم يعرف ذويهم مكانهم أو ما جرى لهم إلا بعد أسابيع أو شهور، اختفوا فيها تماما دون أثر، ليظهروا فجأة في سجون نائية أو بعيدة عن أماكن إعتقالهم أو في جلسة محكمة، وفي جميع الأحوال يكون قد نالهم التعذيب وتدهورت صحتهم تماما، وبعضهم قد قُتل ثم ظهرت جثته ليتهم بأنه قاوم السلطات أو بادلهم بإطلاق النار أو أنه انتحر، ولعل حادثتي مقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني، والطالب أحمد مدحت كافيتين لتعرف ما جرى لغيرهما ممن لم يسلط الضوء الإعلامي عليهم.
 

رابعا: المدد الطويلة للإعتقال، فمنذ قرار عدلي منصور بفتح مدد الحبس الإحتياطي ومئات المعتقلين يجدد لهم بلا أي محاكمة، وكأنهم دخلوا سردبا زمينا لا خروج منه، فمن تجديد إلى تجديد ومن معتقل وسجن إلي آخر يقبع هؤلاء تحت سطوة أكبر جريمة قانونية ارتكبت في مصر خلال الأعوام الماضية، وهو وضع لم يكن موجودا قبل ذلك أيضا.
 

على الرغم من كافة محاولات التجميل السياسي التي يسعى إليها المجتمع من حين لآخر، فإن أي حل سياسي لا يرتب حلا جذريا لهذه الأزمة سيذهب أدراج الرياح

خامسا: الأحكام طويلة المدة، فإذا كان ثمة مئات مازال يجدد لهم حتى الآن أمر إعتقالهم دون صدور حكم ضدهم أو معرفة موقف نهائي من حبسهم، فإن ثمة آخرين نالتهم أحكاما بالجملة تجاوزت مدة العشر سنوات والخمس عشرة سنة وأكثر، وهي مدد طويلة كثير منها لا علاقة له بحجم التهمة الموجهة، فضلا عن عدم علاقة العشرات بالتهم الموجهة أصلا، وهو أمر شاهدناه في قضايا عدة بدأ الحكم على المتهمين بالإعدام ثم خفض إلي مدد كبيرة بعد ذلك في قضايا غير منطقية، هذا غير المئات الذين تنظر قضاياهم أمام محاكم عسكرية بما يعني تناقص فرص الأمل في الخروج أو تخفيف الأحكام، وأيضا هذا أكبر عدد من مدنيين وسياسيين يحاكمون وينالهم أحكاما بهذا الحجم من حيث عدد السنوات ونوعية الأحكام والمحاكم.
 

لذلك ومما سبق كله فإن قضية المعتقلين بتنوعهم هذا، ترتب حالة من اليأس والإحباط تنال روح المعتقلين وذويهم على السواء، وتخنق المجتمع اقتصايا أكثر وأكثر، فهي من جانب تهدر طاقات بشرية ضخمة وموارد مالية أضخم في الإنفاق على هؤلاء المعتقلين سواء من مواد الدولة أو مدخرات وموارد المعتلقين وذويهم على أشياء أولية كالعلاج والطعام والكساء، هذا فضلا عما ترتبه هذه الأزمة بشكلها الحالي على موقف مصر الدولي من حيث سمعتها بعد كل هذه الانتهاكات في حق العدالة التي بدورها سترتب ردود فعل سلبية كثيرة سواء على مستوى الاستثمار أو السياحة، أو من بعض ذوي المعتقلين خاصة الشباب وصغار السن، بعد فترة من الزمن واليأس بما يجعلها قنبلة مؤقتة بشكل مادي وحقيقي وليس مجازي، قد تنفجر في وجه المجتمع بعد زيادة "خنق" روح الدولة، وعلى الرغم من كافة محاولات التجميل السياسي التي يسعى إليها المجتمع من حين لآخر، فإن أي حل سياسي لا يرتب حلا جذريا لهذه الأزمة سيذهب أدراج الرياح، فخنق روح الإنسان وقتلها ببطء، لا يمكن أن تتنفس معه الدول أو تتقدم.