لستُ كبيرا بما يكفي لأدعي حكمة لا تكون إلا في ذرى الأربعين، ولا صغيرا على امتلاك ذاكرة أعود بها إلى ماضٍ هو أجمل دائما.
في زمن راجت فيه الشعارات التقدمية، والمسيرات المحتشدة نحو النجوم، كان الحديث عن أفضلية الماضي رجعية وحماقة آفلة، فالمستقبل هو ما يستحق المراهنة دائما، فيه سلة الغذاء التي ستفيض، والتقانة التي ستضمن السعادة للبشرية! وقد ذابت تلك الشعارات واندثرت المسيرات وجاءت بغير ما بُشر به، سيطر القلق من المستقبل وانعدمت أسباب الأمل.
الفرح واجب، إن لم يكن لتوافر الدواعي الحقيقية، فلأجل الإنسانية في أشد حالاتها مسكنة وحاجة للعزاء |
يبدو العالم مهتزا بشدة، الأبطال يخسرون مواقعهم لمجرمي الحرب الحقراء، والألوان تبهت لمصلحة الرمادي، وخط الزمن ينحدر بشدة نحو المجاهيل. هناك تلوث وسخام، وكلام كثير لا معنى له، وعالم جديد تشكله القوى العظمى بغير مشورة، وحروب برسم الجهات الأربع، ولذا فالحديث عن الماضي بنبرة الحنين حيلة لمن استكمل وعيه ببؤس الحاضر والمستقبل معا، وهي ليست بدعة زمننا وحده، فكل أصحاب عصر نظروا للخلف فوجدوا أمسهم خيرا من يومهم، وفي المرويات الدينية شواهد عن "زمان لا يأتي إلا والذي قبله خير منه"
وقد عدت بالذاكرة سنوات لأظفر بفرصة رؤية العيد في جدة صافيا مثلما كان، مثلما فعل "المعتمد بن عبّاد"، حين وقف على تخوم الشعر، مسترجعا في أغماتَ عيدا من زمن آخر.. "فيما مضى كنتَ بالأعياد مسرورا"
عيد هذا العام أبرد وتنقصه حميمية الفرح، على المستوى العام والشخصي، ورغم ذلك فالفرح واجب، إن لم يكن لتوافر الدواعي الحقيقية، فلأجل الإنسانية في أشد حالاتها مسكنة وحاجة للعزاء.
إلى عيد لم يكن فيه قلق من حب أو حرب، كان في الإيمان أكثر يقينية، والأفراح بيّنة الطفولة.. إلى ثيابنا البيضاء معلقة بهيبة على الخزائن تحتها أحذيتنا السوداء تلتمع من النظافة والجوارب مندسة بجوفها، كل شيء معد للصباح، ونحن نختلس النظر لحلّة العيد من تحت اللحاف، رغم ظلام الغرفة.
إلى أذان الفجر وهو يشق حواجز الكون، تحمله بحّة المؤذن، صادقا، ليصطدم بآخر نجم ويعود، إلى تداعي العوائل التي نامت أو أسهرها ترقب الفرح للتجهز، أولئك لمحو آثار المنامات، وهؤلاء لاستعارة نشاط ما لأجل يوم طويل.
إلى صلاة العيد وأصوات التكبير، والجماعات التي تملأ السكك نحو المشهد، كنا نصلي في "برحة بندر" وهي أرض ترابية باتساع ملعب كرة قدم، نشم في الطريق إليها روائح عطور نسائية علقنا بها زمنا، وروائح بخور من ثياب الكهول، ومن بعيد نرى تحيات تتخلق بين اثنين بلغات كثيرة، وصغارا مثلنا يجرون في ثياب بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود.. كان الطريق للمشهد كرنفال ألوان وروائح، ومسرحا للأصوات، وبعد سماع الخطبة التي لا جدّة فيها، نعود من طريق آخر كما هي السنة النبوية.
في البيوت تستيقظ الأفراح من سباتها، ونلتقي بأبناء العمومة الآيبين من الغياب، وهناك دوما ذاهبون جدد إليه في كل عيد، الجدّة التي اعتادت أن تلم حولها الجميع غابت وتركت طيفا بديلا لها، والأخت الكبرى تزوجت وهي تحتفل مع أهل زوجها في حي بعيد.
الحي يضج بالأغنيات، ودعوات الفطور من الجيران، على الجميع أن يدعو الجميع، وعلى الجميع أن يقبلوا أو يرفضوا بتهذيب.
في الليل تبدأ أماسي العيد بالتجلي، ويجتمع الجميع مرة أخرى بلا كثير وقار، ينفلت الضحك من عقاله، تُلقى نكات من الصغير على الكبير، يقبل الكل هذه الظرافة بالتساوي، لكنهم يختصمون بشدة على نتائج المباريات، أنصار بطل الدوري ينظرون من علو بتشفٍ للمعلقين بسلالم جدول الدوري، وأولئك يتهمون التحكيم دائما بتغييب العدالة.
ولأيام تدور عجلة الأنس، وتستمر قافية السعود، يعفو فيها المتخاصمون عن بعضهم، ويتصالح الأزواج، وتستأنف الحياة بهجتها.
كان عيدُ الأضحى أقل زخما في التفاصيل من أخيه الأول، ما عدا طقس ذبح الأضاحي وتقسيمها أثلاثا؛ فثلث يُهدى وثلث يُتصدق به، وثلث يُحتفظ به لأيامٍ أُخر.. في عيد الأضحى يغيب الناس عن المشهد إما للحج، أو في جوار رسول الله، وآخرون يسيحون في الأرض، وعلى عكس بقية العالم العربي والإسلامي، كنا نسميه "العيد الصغير" لأنه أفقر في دواعي الفرح.
دمشقُ درة الشام وبابه، وسيف التاريخ الذي لم يغب، وكلام المجد في الكتب |
هناك مدن تُرجى لذاتها، مدنٌ حية تشبه البشر، وجدّة منها.. جدة مدينة فسيفسائية ضمت الجميع، مدينة كوزموبوليتانية، كان يكفينا فيها أن ننتسب لأحيائها عوضا عن الجنسيات لتشتعل الثارات، مدينة ترقد في جوار البحر بهدوء منذ أن سكنتها "قضاعة" ولم ترد عن أسوارها غريبا، وهي ميناء لأي سندباد ملّ ركوب البحر، وهي عندي أخت لمدنٍ كثيرة تتشابه حياةً وعشقا وترحابا.
والمدينة التي سمعتُ عنها وعشقتها عن بعد هي "دمشق"، وكان علي الطنطاوي رحمه الله؛ أديب الفقهاء وفقيه الأدباء قد علقني بها أول مرة، في ذكرياته التي بسطها في كتبه بيانا، فرأيتها عيانا.
دمشقُ درة الشام وبابه، وسيف التاريخ الذي لم يغب، وكلام المجد في الكتب، كتب عنها الشيخ كثيرا وأحبها كما يحب الوالد ولده، والابن أمه، وقد جُمعت مقالاته عنها في كتاب باسم المدينة التي أحبها فأحببناها لدواعٍ تُذكر وتُنسى، وقد عدتُ لمقالة فيها بعنوان "العيد في دمشق" ضمنها ذكريات للعيد فيها جميلة، يقول في ختامها:
"عفوا يا سادة، لقد استغرقتُ في ذكرياتي، فلم أنتبه إلى أن الكلام قد طال وجاوز وقت المقال، ولا تزال في النفس أشياء وأشياء، وأنا لم أعرض من الصورة إلا جانبا منها، عرضته كما هو بما كان فيه من خير وما كان فيه من شر، كنتُ فيه وصّافا ولم أكن ناقدا ولا مفتيا.. ولعلي أعود يوما إلى إكمال الكلام في هذا الموضوع".
مات الشيخُ رحمه الله ولم يُكمل كلامه عن دمشق، فمن يكمله عنه؟ ومن يحدثنا عن جدة، وعن المدن الجميلة الأخرى؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.