في أثناء اقتحام الحلفاء لأوروبا سنة 1944 (خلال الحرب العالمية الثانية) حدث للحظات قليلة اضطراب شمل جميع الاتصالات اللاسلكية، كان من الممكن أن يسبب هذا كارثة تقضي على العمليات العسكرية التي كانت قد بدأت تشق طريقها.. لم يعرف أحد سبب هذا الاضطراب إلا بعد عدة سنوات، حيث عُزي هذا الاضطراب إلى انفجار حدث في مجموعة نجمية يُطلق عليها مجموعة (أندروميدا)، علما بأن هذه المجموعة تبعد عن كوكبنا عدة ملايين من السنوات الضوئية.. ويوجد على الأرض نوع من الزلازل الفاجعة يرجع إلى تغيرات معينة تحدث على سطح الشمس.
يورد الفيلسوف المجاهد علي عزت بيجوفيتش هذه القصة في مقدمة الفصل الذي حمل عنوان "التسليم لله" والذي ختم به عمله الفلسفي الأهم "الإسلام بين الشرق والغرب"، يورد هذه القصة للاستشهاد على محدودية قدرة الإنسان بالتحكم بمصائره فضلاً عن تحكمه بالعالم والكون والطبيعة.
مهما بذل الإنسان جهده لتغيير العالم وتحسينه وجعله مكاناً أفضل للعيش، فإنه سيصطدم بحقائق مريعة من قبيل أن هناك أطفالاً يموتون كل يوم "بطرق مأساوية حتي في أكثر المجتمعات تقدماً وتطورا" |
منذ أن حط الإنسان على هذه الأرض، سعى لإقامة الفردوس السماوي الذي أُخرج منه عليها، أراد الإنسان أن يبني مملكته في هذه الأرض وأن يكون سيد نفسه ومصيره، ومن أجل هذا أخذ يراكم المعارف والخبرات والتقنيات لتتوسع إدراكاته وتزداد قدراته على تنظيم حياته ونمذجتها وفقاً لمخططات ورؤي طوباوية مثالية.
من الممكن أن نقرأ الطموح التنويري كله بأنه تفاؤل ساذج لإقامة مملكة الرب -هنا والآن- على الأرض، آمن التنوير بأن الإنسان يستطيع الإجابة على كل التساؤلات والقضايا التي تؤرقه، وأنه قادر عبر تراكم مستمر على الوصول إلى الحقائق الكلية النهائية، وعندما يحدث ذلك فإن البشرية ستعيش في عالم مثالي طوباوي حيث يسوده دفء الإخاء والسلام والطمأنينة الكاملة.
لكن الإنسان الذي راكم بالفعل معارف وخبرات هائلة، واكتشف الذرة والتفاعلات بداخلها، أنتج من معرفته هذه ما يهدد بفناء البشرية وزوالها، وعلى العكس من هذا التفاؤل الذي وسم عصر التنوير، انتهى الإنسان الحديث -وخاصة بعد الحربين العالمية الأولى والثانية- إلى السقوط في مزالق العدمية والعبثية التي جاءت فيما يبدو كنتيجة لخيبة الأمل التي اعترت سيرورة الحداثة المتفائلة بإيجاد إجابات شمولية ومتسقة للتساؤلات الإنسانية.
بدا واضحاً أنه كلما نمت معارف الإنسان واتسعت مداركه، جنح إلى القناعة بأنه من المستحيل أن يكون هو سيد نفسه ومصيره والعالم، هذه القناعة بالنقص والعجز وعدم امتلاك القدرة والقوة الكلية لتسيير العالم وامتلاك زمام الحياة، تدفعان الإنسان إما نحو التمرد العبثي والانحطاط في مهاوي العدمية، أو ترتقي به نحو التسليم لله والرضا بقدره.
يقول بيجوفيتش عن هذا "لقد وُضع الإنسان في هذا العالم وقدًر له أن يعتمد في وجوده على كثير من الحقائق التي لا يملك عليها سلطانا.. وتتأثر حياته بعوامل قريبة منه وعوامل أخرى نائية عنه أكثر مما يتخيل، لذلك فإن الإسلام يجتهد في تنظيم هذا العالم عن طريق التنشئة والتعليم والقوانين التي شرعها، وهذا هو مجاله المحدود، أما مجاله الرحيب، فهو التسليم لله".
كنتيجة لاعتراف الإنسان بعجزه وشعوره بالخطر وعدم الأمن يجد بيجوفيتش أن التسليم لله في حد ذاته قوة جديدة وطمأنينة جديدة. إن الإيمان بالله والإيمان بعنايته يمنحنا "الشعور بالأمن الذي لا يمكن تعويضه بأي شيء آخر. ولا يعني التسليم لله سلبية في موقف الإنسان كما يظن كثير من الناس خاطئين"
لا يعني التسليم لله أن بيجوفيتش يدعو إلى موقف سلبي تواكلي تجاه الإنسان والعالم، بل على العكس من ذلك تماماً، فلما كان الإنسان غير قادر على تحقيق مبتغاه في هذا العالم، ولما كان فعله وسعيه في الدنيا غير مضمون العواقب والنتائج، فإن التسليم لله وحده من سيعطي للإنسان المعنى الكامل لسعيه في الدنيا مهما اعتراه من نقص ومهما جاءت نتائجه قاصرة.
علينا أن نتقبل المكان والزمان اللذين أحاطا بميلادنا، فالزمان والمكان قدرُ الله وإرادته |
فأن يتقبل الإنسان محدودية قدرته ويفوض ماعدا ذلك إلى الله عز وجل، لهو أمر ينطوي على اعتراف بحقيقة الوجود الإنساني المأساوي والظروف التي وجد الإنسان نفسه بها، إنه قرار واع بالتحمًل والصمود والتجمًل بالصبر أمام أهوال الحياة ومآسيها، فمهما بذل الإنسان جهده لتغيير العالم وتحسينه وجعله مكاناً أفضل للعيش، فإنه سيصطدم بحقائق مريعة من قبيل أن هناك أطفالاً يموتون كل يوم "بطرق مأساوية حتي في أكثر المجتمعات تقدماً وتطورا"، وأن الظلم والألم سيظلان ملازمان للوجود البشري، وأن سعي الإنسان في أحسن الأحوال هو لتخفيف هذا الظلم والألم.
كما أن التسليم لله يعني اكتساب الإنسان لحرية مضاعفة، فلما كان على علم بظروف وجوده المأساوية (لقد خلقنا الإنسان في كبد)، فإن ذلك يعني إدراكه لما سيواجهه في هذه الحياة من مكابدة وعناء، وأنهما سمتان معقولتان وطبيعيتان في هذا الوجود، ما يحقق له الصفاء والاعتدال ويحرر سعيه من قيد النتائج وتحققها وتفويض أمرها لله عز وجل.
ولعل أفضل ما أختم به هذه التدوينة هذا الاقتباس الذي توج به يجوفيتش رحمه الله فصله "التسليم لله" وكتابه الرائع الإسلام بين الشرق والغرب "فلكي ندرك حقيقة وضعنا في هذا العالم، علينا أن نستسلم لله، وأن نتنفس السلام، وألا يحملنا الوهم والشك على أن نبدد جهودنا في الإحاطة بكل الأشياء ومحاولة معرفة أسرارها، فسرها عند الله، وكل شيء خاضع لإرادته، علينا أن نتقبل المكان والزمان اللذين أحاطا بميلادنا، فالزمان والمكان قدرُ الله وإرادته. إن التسليم لله هو الطريقة الإنسانية الوحيدة للخروج من ظروف الحياة المأساوية التي لا حل لها ولا معنى.. إن الإيمان بالله هو الوسيلة الوحيدة من التحرر من درء التمرد والقنوط والعدمية وتقبًل القدر المحتوم"