لا يتطابق حالان في التاريخ تماماً، ولكن ملامح الشبه بين حقبتين تبقى جديرة بلفت النظر. والمَشَابِهُ تتشابك كحارة تؤدي إلى حارة، أو كخيوط الصوف المتقاطعة بين يدين مرفوعتين لفتاة تساعد أختها في لف بكرة الخياطة: تتشابك المقارنات، حتى لا يعرف القارئ، بل ربما الكاتب، عن أي الزمنين يدور الحديث: "وقد يتقارب الوصفان جداً، وموصوفاهما متباعدانِ*
في مصر.. كان نظام الالتزام نظام فساد مؤسَّسي مكرّس. السلطان يمنح حق الانتفاع بقطعة أرض إلى أحد المماليك مقابل مبلغ ثابت من المال يلتزم المملوك بدفعه للسلطنة. |
إن مصر على شفا انهيار كامل، وحالها تذكر المتأمِّل فيها بالقرن الثامن عشر، قبيل الغزو الفرنسي. كان نظام الحكم العسكري المملوكي قد انهار تماماً. إن الرقيق الذين أصبحوا سلاطين، كانوا قد اكتسبوا شرعيتهم من انتصارهم على الفرنج والمغول في القرن الثالث عشر، ثم توقفوا عن الانتصار إلا على أنفسهم، ثم خسروا سيطرتهم على الموانئ لصالح الأوربيين في القرن الخامس عشر ثم سقطت دولتهم في أيدي العثمانيين في القرن السادس عشر، إلا أن العثمانيين سمحوا للمماليك أن يستمروا في إدارة البلاد لمائتين وخمسين سنة أخرى، لم تشهد فيها مصر أي ازدهار ثقافي أو معرفي، ناهيك عن أي إنجاز عسكري أو اقتصادي يذكر.
كان نظام الالتزام نظام فساد مؤسَّسي مكرّس. السلطان يمنح حق الانتفاع بقطعة أرض إلى أحد المماليك مقابل مبلغ ثابت من المال يلتزم المملوك بدفعه للسلطنة، فيفرض المملوك أضعاف ذلك المبلغ على الفلاحين، ويعيش على الفرق. وربما أوكل المملوك جباية الضرائب لوسيط أخر دونه، فيجبي الوسيط من الفلاحين أكثر من المبلغ الذي طلبه من المملوك، الذي هو بدوره أكبر من المبلغ الذي يدفعه المملوك للسلطان، وهلم جراً. فكانت الفوائض الزراعية تضيع للصرف على طبقات عدة من السماسرة والوسطاء ثم المماليك والولاة، وكانت الضرائب التي تجبى من الفلاحين ضخمة جدة، لكن ما يصل منها إلى خزينة الدولة المركزية قليل جداً، ما افقر الشعب، وأفقر الدولة، ولكن أثرى المماليك.
ولم يكتف المماليك بذلك، بل كانوا يطلبون المزيد، ولا يتورعون في سبيل زيادة سلطاتهم عن ارتكاب الخيانة العظمى. ففي النصف الثاني من القرن الثامن عشر، تمرد علي بك الكبير، وهو مملوك اسمه الحقيقي علي بلاط، وكان يشغل منصب شيخ البلد، على السلطنة العثمانية. وقد استغل هذا فرصة اشتباك السلطان العثماني مصطفى الثالث مع الإمبراطورية الروسية في حرب عام ١٧٦٨ ليعلن استقلاله. وقد اتصل علي بك الكبير، بقائد الأسطول الروسي، متمنيا أن يعرض هذا الأخير على إمبراطورة روسيا كاثرين الثانية أن تتحالف مع علي بلاط شيخ البلد بمصر المحروسة على الخلافة العثمانية.
ورغم أن قوات علي بك سيطرت على الحجاز وفلسطين وجنوب سوريا بما فيها دمشق، ورغم أنه تَلَقَّبَ بسلطان البرين وخاقان البحرين، وهو من ألقاب سلاطين المماليك بين عامي ١٢٦١ و١٥١٧، وأمر أن تقام الخطبة والدعاء باسمه، إلا أن روسيا تحت حكم كاثرين الثانية وقادتها لم يروا فيه حليفا ذا قيمة، ولم يفوا له بوعودهم أن يدعموه، ولم يعطوه إلا ثلاثة مدافع وبضع بنادق، فأصبح وضعه العسكري والسياسي حرجاً للغاية.
حين وصلنا إلى عام ١٧٩٨ وظهرت أعلام نابليون بونابارت في بحر الإسكندرية، لم يكن في البلد من يستطيع المقاومة. |
وعلى عادة المماليك، من خان سيده، خانه عبده. فانقلب محمد بك أبو الدهب، قائد جيوش على بك الكبير عليه وأطاح به وقتله، لصالح السلطان، وحكم بعده لثلاث سنوات. لكن هذا الانقلاب على الانقلاب لم يحل المشكلة، حيث بقي نظام الحكم العسكري القائم على تغالب المماليك وامتصاصهم الطفيلي للفوائض الاقتصادية في البلاد قائماً. ويصف الجبرتي كيف تدهور الحال في مصر قبيل الحملة الفرنسية، حيث كانت فرق المماليك وأتباعهم تتنافس على أتفه المكاسب الاقتصادية، حتى أن فرقتين منهم اشتبكوا بالرصاص على حمار عليه حِمل برسيم، وسقط تسعة قتلى في ذلك الاشتباك.
فحين وصلنا إلى عام ١٧٩٨ وظهرت أعلام نابليون بونابارت في بحر الإسكندرية، لم يكن في البلد من يستطيع المقاومة. العسكر المملوكي، العسكر المنصور في عين جالوت وعكا وطرابلس وأنطاكية، كان قد اندثر، ولم يبق منه إلا ألف كافور، زِقَاقُ رِيَاحٍ، منفوخون كالطبول، ضخام الكروش، أدنياء النفوس متجبرون على العزّل هرَّابون في الحروب.
لذلك كنت دائماً أرى مقدمة رواية الجبرتي لأحداث الغزو الفرنسي لمصر صالحة لغير زمانها أيضاً، فقد كتب يقول عن سنة ١٧٩٨:
"هي أول سنين الملاحم العظيمة والحوادث الجسيمة، والوقائع النازلة والنوازل الهائلة، وتضاعف الشرور وترادف الأمور، وتوالي المحن واختلال الزمن، وانعكاس المطبوع وانقلاب الموضوع، وتتابع الأهوال واختلاف الأحوال، وفساد التدبير وحصول التدمير وعموم الخراب وتواتر الأسباب (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)"