شعار قسم مدونات

رحلة مع أبو ذر الغفاري.. المشاعي الزاهد

blogs - mosque
حين أتساءل عن أي الشخصيات في التاريخ "الإسلامي" والتاريخ الإنساني بشكل عام، أتمنى أن أعود بآلة الزمن وأقابلها؟ تتضمن الإجابة دائما، اسم المشاعي الثوري، أبو ذر الغفاري، ذلك الرافض المتصوف في قول الحق، فأتمنى أن أعيش معه لحظات صدق وأسمع منه قيمه الملهمة وأن أحضر لنضالاته الملحمية التي خاض من أجل الانسان، بل أتصوره بيننا، وأكاد يصلني غضبه من واقعنا واستشراء الظلم في كوكبنا، وتوحش تحكم رأس المال في عالمنا وغياب العدالة الاجتماعية، وخيانة النخب للمطحونين، أتذكره كلما ضقت ذراعا بتراث الخنوع والسكوت على الظلم، الذي ظل ينتج ويعاد تدويره، للإبقاء على أنظمة القمع والظلم الجاثمة على صدور شعوبنا منذ أمد بعيد.
 

الزاهد، المشاعي، الثوري
كان البدوي، جندب بن جواد(أبو ذر الغفاري) مختلفا حتى قبل إسلامه، كان متألها، وقد أسلم في بداية الدعوة المكية إلا أنه لم يلتحق بالرسول إلا بعد الهجرة إلى المدينة.
 

اختار أبو ذر أن يكون أحد السالكين لطريق التحرر والمزعجين للسلطة، الصارخين بقناعاتهم دون رتوش، والفاضحين لزيف السلطة، لم يخف الفقر ولا الموت.

كان صحابيا يقوم بدوره في الحرب والسلم، لكنه منذ البداية عرف بالزهد والقرب من الفقراء، ونبذ التبذير والاسراف، زهده الملفت، تحدث عنه هادي العلوي في كتابه "مدارات صوفية: ثراث الثورة المشاعية في الشرق" وعن بعض خصاله الأخرى حيث قال: اكتفي أبو ذر بزوجة واحدة ولم يتسرى، إذ لم تكن عنده لا جواري ولا عبيد. فهو ممن حرم الرق على نفسه كما حرم الزواج الضرائري (تعدد الزوجات).
 

ويضيف هادي العلوي متحدثا عن أبو ذر، الذي يعتبره من آباء الصوفية" وأبو ذر شأن صاحبه سلمان مناضل اجتماعي على طريقة المسيح يحركه وعي طبقي وحس إنساني". ويعتبره علوى أحد أبرز معلمي المشاعية في الإسلام.
 

كان أبو ذر لا يخاف في قول الحق لومة لائم، كان يعبر عن رأيه بكل ثقة وبسالة، حين يرى تمثل للظلم، لم يخف خليفة ولا والي، وكانت أبرز فترات نضاله، أيام حكم الخليفة، عثمان بن عفان، حيث امتعض من الفساد واستخدام النفوذ واكتناز المال، فقد انتقد وعارض الهبات والمنح التي كان يمنحها عثمان لأقاربه وأصدقائه، وقد عرف بقول "بشر الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاو من نار…"، عن تلك الفترة، قال هشام جعيط في كتابه الفتنة: "نهض أبو ذر الغفاري، سنة ٣٠هـ ، من خلفية أفقر فيها الفقراء وأغني فيها الأغنياء، خلفية الغليان الشديد لمجتمع ما بعد الفتح، خلفية تكديس الذهب والفضة، مبشرا بالعدل والتآزر مدينا التخزين بكلمات بسيطة وقوية".
 

وتحدث هادي العلوي في مداراته عن موقف أبو ذر، المعارض للوضع القائم أيام خلافة عثمان بن عفان، وقال: وكان أبو ذر ينشط ضمن معسكر المعارضة بإمامة علي. إلا أنه انفرد بوتيرة خاصة للنضال كان فيها أكثر اندفاعا وأقل تحفظا من إمامه.

كما تميز عنه في خياراته الشخصية. فقد امتنع أبو ذر عن امتلاك أي شيء عدا راتبه السنوي المخصص له في ديوان الجند وهو خمسة آلاف درهم كان يعتاش منه ويوزع ما فصل على الفقراء. وقد قنن عيشته وعيشة عائلته بالحد الأدنى.
 

ومن أشهر مواقفه، انتقاده لمعاوية أيام كان عاملا على سورية، الذي سرد تفاصيله، عبد الحميد جودة السحار في كتابه" أبو ذر"، حيث قال: بلغ أبو ذر الشام وكان معاوية يبني الخضراء، وآلاف العمال يحملون مواد البناء، يروحون ويغدون، ووقف معاوية يتطلع إلى الخضراء مزهوا، ولمحه أبو ذر، فاتجه إليه، وقال: يا معاوية، إن كانت هذه هي من مال الله، فهي الخيانة، وإن كانت من مالك، فهي الإسراف.
 

وكان يعمل في سورية على تنبيه الاغنياء على خطر أنانيتهم، وكان يقول "يا معشر الأغنياء، واسوا الفقراء". وسرد جعيط قصته في سورية "كان يقول ويكرر إن أولئك الذين يملكون المال لا يكونون خالصين أمام الله حين يدفعون ما عليهم من زكاة، بل كان يتوجب عليهم أكثر من ذلك. ولئن كان قد أنباء معاوية، عامل سورية، فذلك لأنه كان يسمى مال الغنائم والضرائب "مال الله"، وكأنه يريد انتزاعه من المسلمين. فقال له: هذا المال يعود للمسلمين ولا يجوز أن تسميه مال الله". ويضيف جعيط "ورفض هبة من معاوية ومساعده حبيب بن مسلمة. وكان وعظه في سورية حول شرور الغني وضرورة تكافل أوسع، وحول محاسن الزهد والتقشف، يجتذب الفقراء ويزعج الأغنياء".
 

ذلك النشاط أدى بمعاوية لشكايته عند عثمان، فاستدعاه الخليفة، فجدد أبو ذر انتقاداته للفساد وللخليفة وتمييزه أبناء أعداء النبي السابقين، وقال المشاعي الزاهد "لا يجوز للأغنياء أن "يقتنوا مالا"
 

أثمان النضال
نضال ومواقف أبو ذر أدت به إلى أن يتحول إلى شخص غير مرغوب فيه، وقال عنه الزركلي في الأعلام بأنه أول اشتراكي طاردته الحكومات. وثمثل ذلك في تسبب انتصاراته لقناعاته؛ بإزعاج الخليفة عثمان، مما أدى لنفيه وعائلته إلى بادية الرمذة، وقدم جودت السحار في كتابه آنف الذكر، بعض تفاصيل رحلة النفي، حيث قال: دعا عثمان مروان، وأمره أن يخرج بأبي ذر إلى الربذة، ونهى الناس أن يصحبوه في مسيرة أو يشيعوه، وامتطى أبو ذر راحلة، وامتطى مروان أخرى، وراحا يخترقان طرق يثرب، وصدع الناس لأمر أمير المؤمنين، فتجافوه، وجعل أبو ذر يدير عينه فيما حوله.
 

تبعه علي ومعه الحسن والحسين وعقيل أخوه، وعبد الله بن جعفر، رغم ذلك النهي وساروا معه حتى بلغوا الربذة، فنزلوا معه، وجلسوا يتحدثون، وودعه على بخطبة قال فيها:
 

يا أبا ذر إنك غضبت الله فارج من غضبت له. إن القوم خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك فاترك في أيديهم ما خافوك عليه واهرب منهم بما خفتهم عليه فما أحوجهم إلى ما منعتهم وما أغناك عما منعوك. وستعلم من الرابح غدا والأكثر حسدا.
 

خلد أبو ذر اسمه كرمز لرفض الظلم ومنافحة الظالمين، كان صوت المقهورين والمعذبين في الأرض، وكإنسان متوقد الشعور بالآخر، أسس لنهج نحتاجه في أيامنا المبتذلة هذه.

تجربة أبو ذر تستحق التأمل والاستحضار، فقد اختار أن يكون أحد السالكين لطريق التحرر والمزعجين للسلطة، الصارخين بقناعاتهم دون رتوش، والفاضحين لزيف السلطة، لم يخف الفقر ولا الموت، وقد نبه جعيط في كتابه الفتنة على أهمية نضال وتجربة أبو ذر، فقال "سيقدم أبو ذر، بمنفاه، وبعذاب وحدته، باحتجاجه، شهادة رائعة على رفض الغنى وحبه للعدل والإخاء وإشفاقه وحنون على الفقراء. لقد مجد صوته جزءا من التراث القرآني، ذلك الذي يسير في اتجاه إدانة الثراء والتباهي به، الاتجاه الذي يبشر بالتكافل والتآزر والذي يأمر بالمعروف. إنه صوت بسيط ومتشدد، لا يهتم إطلاقا بالتنظير، لكنه يريد أن يكون دعوة حارة وملتهبة، صارمة وصادقة، إلى طريق المدينة القديمة، المؤمثلة".
 

توفي أبو ذر في الرمذة، ليخلد اسمه كرمز لرفض الظلم ومنافحة الظالمين، كان صوت المقهورين والمعذبين في الأرض، وكإنسان متوقد الشعور بالآخر، أسس لنهج نحتاجه في أيامنا المبتذلة هذه.
 

أيام تبيع فيها النخب نفسها في سوق النخاسة، وينظر "العالم" والمثقف للطغيان والظلم، يلهثون ويكدسون المال القذر ولو كان مصدره ظلم أرواح بريئة، يوعظ فيه البعض ويدعو للزهد ويعيش في ترف وتباهي.

كم أتمنى لقائه حتى أسأله عن رأيه فيهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.