الثورة فعل تغيير عميق الأثر في النظم القائمة، ونجاحها أو فشلها ليس مرهوناً بأشخاصٍ بعينهم بقدر ماهو متوقف على تحقيق أفكار وأهداف، ولكن دائماً مايكون هناك متصدرون للمشهد يؤثر فكرهم ونظرهم وخبرتهم من عدمها بالمشهد القائم، وقد يشكلون خطورة علي الثورة أكثر من أعدائها بل أحيانا يكونوا هم سبب انتكاستها.
"لكل شعب ثورتان، ثورة سياسية يسترد بها حقه في حكم نفسه من يد طاغية فرض عليه أو من جيش معتد أقام في أرضه دون رضاه، وثورة اجتماعية تتصارع فيها طبقاته ثم يستقر الأمر فيها علي ما يحقق العدالة لأبناء الوطن الواحد" تلك كانت فلسفة عبدالناصر للثورة، وهي فلسفة لا غبار عليها أن تحققت وآتت ثمارها، ولكن هل استرد الشعب حكم نفسه حقا؟! وهل تم تحقيق العدالة الاجتماعية صدقا؟!
الجميع يعلم بأن الجيش ليس مكانه الحكم ولا السياسة ولا الاقتصاد، وإنما مكانه حفظ حدود الوطن وترابه، حتى من حكموا من العسكريين يعلمون ذلك. |
إن نظرة عامة تدلك علي أن ماحدث هو استبدال للأشخاص دون الأحوال أو الأفكار، فلقد قام انقلاب الضباط الأحرار أو ما أطلق علية حركة أو ثورة بعد ذلك بإزاحة الملك وحاشيته وأصبحوا ملوكاً ولهم حاشيتهم، وحاولوا تقليص طبقة الإقطاعيين فتكونت بعدها على مر السنين طبقة الإقطاعيين الجدد وبقي أكثر الشعب تحت خط الفقر إلا قليلا، هي مقدمات تتبعها نتائج.
والجميع يعلم بأن الجيش ليس مكانه الحكم ولا السياسة ولا الاقتصاد، وإنما مكانه حفظ حدود الوطن وترابه، حتى من حكموا من العسكريين يعلمون ذلك. تري هذا واضحاً تماماً في كتاباتهم. ولكن كما يقول محمد نجيب " كل الظروف حولنا كانت تدفعنا إلى الحكم".
والحقيقة أن ما يدفعهم للحكم دائماً هو ضعف النخب القائمة وانتهازيتها وفساد ونفاق معظمها وانتشار الجهل وما يلازمه من قلة الوعي والإدراك، ففي أعقاب 23 يوليو 1952 يحكي عبد الناصر" ذهبنا نلتمس الرأي من ذوي الرأي والخبرة من أصحابها ومن سوء حظنا لم نعثر على شيء كثير" ويقصد النخبة آنذاك، فما كان للعسكريين إلا أن يتقدموا الصفوف ويعلنوا الهيمنة على الدولة بما فيها ومن فيها.
ويحكي نجيب -الذي كان يمثل جناح الديمقراطية في مجلس الثورة كما يقول عن نفسه- بأنه حاول الاستعانة بالإخوان المسلمين ضد عبدالناصر ممثل الديكتاتورية لكنهم أخذوا صف عبدالناصر طمعا في أن يكونوا حزب الثورة ويسيطروا هم على عبدالناصر فأطاح بهم بعد أن ساعدوه بالتخلص من نجيب.
وعلى نفس الخطي في أعقاب 25 يناير 2011 وبالتحديد 11 فبراير خطاب تخلي مبارك عن السلطة وتكليف المجلس الأعلي للقوات المسلحة بها، تلك اللحظة كانت بداية النهاية للثورة، حيث لا تدرك النخبة التي تتصدر المشهد أساساً من هو العدو، وانخدعت في أوج قوتها بتلك البساطة، وبعدها نجح الإخوان في الوصول للحكم على أنهم ممثلي الثورة.
لكنهم اتخذوا طريقا غير ثوري بالمرة، ووُضِعوا في الحكم دون أن يحكموا، وعلى إثر مناكفات سياسية وتصارع شديد ساعدت الكتل المدنية الحكم العسكري والثورة المضادة في الاطاحة بالاخوان، ثم نكل بهم الجنرال وآله بعد أن تمكن من الاخوان المسلمين. تتكرر الأخطاء مرة بعد مرة وتتكرر معها النتائج السيئة دون أن نتعلم شيئا.
وبغض النظر عن تلك الظروف التي آلت بالجيش للحكم، فهل نجح في احداث تغيير ما للأفضل، دعنا نري المبادئ التي رفعها قادة يوليو 52 وماتحقق منها، كان القضاء علي الاقطاع والاستعمار وسيطرة رأس المال علي الحكم واقامة حياة ديمقراطية سليمة وجيش وطني قوي وعدالة اجتماعية هو المبتغى.
قادنا الاستخفاف بخروج الجيش للحياة المدنية يوما إلى هزيمة مذلة وهي اليوم ليست ببعيدة عنا. |
لكن لم يتحقق الكثير، فضعفت طبقة الاقطاعيين ربما فترة ولكنها مالبثت أن تكونت من جديد وأصبحت أكثر قوة وأكثر ارتباطاً بالطبقة الحاكمة، بل مايدعو للأسف أن تحول قادة الجيش أنفسهم إلى إدارة الاقتصاد بدلا عن أن يعدوا العدة للدفاع عن الوطن وحدوده، وأصبح من مهام الجندية المصرية تصنيع الكعك والحلوي والعمل بالفنادق وقاعات الأفراح وربما صالونات التجميل.. إلى آخر ذلك مما نقرأ ونشاهد يومياً.
قادنا الاستخفاف بخروج الجيش للحياة المدنية يوماً إلى هزيمة مذلة وهي اليوم ليست ببعيدةً عنا ولا تخدعنكم مؤشرات أقوي الجيوش التي تشير الصحف إليها. ولقد قضينا على الاستعمار في شكله الظاهري ربما، لأن الاستعمار قرر التخلي عن شكله القديم، لكن قرارنا السياسي غالبا مايكون غير حر، لم نحقق شيئاً يذكر من الديمقراطية ولا العدالة الاجتماعية.
واليوم ومع استمرار قادة الجيش في الحكم تنهار السياسة والاقتصاد ونزداد غرقاً بالديون دون رؤية اصلاحية جادة، وتتوغل طبقة الرأسماليين العسكر في السيطرة علي مجالات اقتصادية يومياً، وتتغير عقيدة الجيش الذي يحكم إلى السلام الدافئ مع إسرائيل والتي ظلت العدوة في الكيان الجمعي المصري من قبل نشأتها، فبأي وجه ينادي المنادون باستمرار الجيش في الحكم؟… لاأدري!!
ولا يمكن لجيش -كما يبدو من الأحداث السابقة ومآلاتها- أن يكون رأساً لثورة، فغالبا ما تغريه القوة وينحي الآخربن جانباً ، ويتولي الحكم دون أن يكون مؤهلاً، ويزداد طمعاً دون أن يستطيع أحد أن يحاسبه أو يواجهه دون أن ينكل به، فهو الذي يملك القوة والسلاح، يلهيه طمعه عن مهمته الأصلية كما ألهت الغنائم الرماة يوم أحد عن مكانهم، فالتف المشركون حولهم وتسببوا في هزيمة يومها من بعد نصر. وما كانت وصية رسول الله صلي الله عليه وسلم لهم إلا أن " لا تبرحوا" أي الزموا أماكنكم فهل يعي الجنرالات الدرس يوماً ما ويلزموا أماكنهم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.