شعار قسم مدونات

رحلة البحث عن وطن

blogs - home
ولدت في المدينة المنورة، ومحبتي لها وأمنياتي المتكررة بزيارتها والإقامة فيها كبيرة، فهي مسقط رأسي ومرتع صباي، ومع هذا لم أشعر يوماً بالانتماء للسعودية كبلد، عشت فيها بضعاً وعشرين عاماً ما بين المدينة المنورة والعاصمة الرياض، ورغم أن "من عاشر القوم أربعين صار منهم" فإن الأمر في دول الخليج ليس كذلك! فبعد ربع قرن ذهب من عمري في تلك البلاد ما زال القانون هناك يصنفني -والملايين غيري- إلى: "أجانب"!
 
هذا بالرغم من أننا ولدنا في تلك البلاد وفتحنا أعيننا فيها كما أننا لا نعرف غيرها، ولكن قوانين "الكفالة" و"تجديد الإقامة" بل حتى قانون "الخروج والعودة" جُعِلَتْ بحيث تُشعِر هذه الفئة بأنها لا تنتمي لهذه البلاد ولن تنتمي لها أبداً، ولقد وجدت المجتمعات الغربية حلّاً لمعضلة الانتماء هذه، فهي تنسب الإنسان للمدينة التي وُلد فيها وتمنحه جنسية البلد الذي ولد فيه، ومن المضحكات أن ابنة أخي الصغيرة سُئِلَت مرةً في مدرستها في بريطانيا عن وطنها الأم فأجابت بعفوية الأطفال بأنها سعودية لأنها وُلدت هناك! مع أزمة الانتماء التي عشتها يُصبح الحصول على الجنسية السعودية حلمٌ يسعى له الكثيرون من أبناء الفئة التي جعلني الله منها، لم أكن أحدهم بالطبع، لأنه لا يوجد سبيلٌ قانوني لذلك ومن السخف أن يحلم الإنسان بأمرٍ يعلم تماماً استحالة تحقيقه.

حين ترسخّت هذه الحقيقة في ذهني وعلمت أن السعودية لا يمكن أن تكون وطناً لي كان الخيار الثاني في رحلتي للبحث عن وطن هو البلد الذي أحمل جواز سفره؛ سوريا، وهنا يجب أن أقول أن الأقدار حكمت بأن أحمل هذا الجواز وأن أكون سورياً، وأنه لا يد لي في اختيار ذلك على الإطلاق، ولو تغيّر القدر قليلاً لربما أصبحت تونسياً أو يابانياً أو برازيلياً وربما غير ذلك! من يدري؟! والقصد هنا أنني أرى أن فكرة الوطن وحبه والانتماء له فكرة سخيفة نوعاً ما، فكيف نُحبُّ شيئاً لم نختره بأنفسنا وفُرض علينا فرضاً؟! وكيف نتعصّب لهذه البقعة الجغرافية أو تلك لمجرد حمْلِنَا لعدة وثائق جعلناها إثباتاً لانتماءنا لهذا المكان أو ذاك؟!
من الصعب على من وُلد في بلدٍ وعاش فيه طوال عمره أن تكون له أية مشاعر انتماء تجاه البلد الذي يحمل جواز سفره، وحتى لو كان هناك القليل منها فإنها في الغالب رومانسية حالمة وغير حقيقية، ومما زاد إحساسي بغربتي عن سوريا كذلك هو أنني كنت أشعر بفروقاتٍ واضحةٍ بيني وبين من يعيش هناك، ومن الطريف ذكره أنني دخلت مرةً إلى محلٍ في حلب وطلب مني صاحبه مبلغاً معيناً، صادف حينها أنني لم أكن أملك فكّة فأعطيته ورقة نقدية أكبر ثم قلت له: ناولني باقي "الفلوس"، وكلمة "الفلوس" هنا تعني النقود باللهجة الخليجية، وقد قلت الكلمة بتأثير سنوات طويلةٍ من المعيشة في السعودية، ما زلت أذكر نظرات الرجل المريبة لي حين سألني: من أين أنت؟ فقلت له: أنا سوري، فقال لي: أهل سوريا يقولون: "مصاري" ولا يقولون: "فلوس"!
لا شك أنني أحب حلب حباً كبيراً، ولا شك أنني ما زلت أتمنى الإقامة فيها كذلك، وما زلت حتى اليوم أعرّف نفسي أنّي من حلب وولدت في المدينة المنورة، وربما يعبّر هذا عن جزءٍ كبيرٍ من محبتي لهاتين المدينتين، ولكن المحبة شيء والانتماء شيءٌ آخر، فما زلت أشعر بأنّي لا أنتمي لسوريا كما لم أشعر يوماً أنّي أنتمي للسعودية كذلك.

عدم الانتماء إلى بلدٍ محدد هو أجدى بكثيرٍ من أن يبقى الإنسان حبيس بلدٍ لا يستطيع الفكاك من طريقة تفكيره ولا تجاوز الحدود التي يرسمها له.

هاجرت بعد ذلك إلى السويد، وحصلت على الإقامة الدائمة هنا، وهذا يجعلني قانوناً بحكم المواطن السويدي في كل الحقوق والواجبات عدا الانتخاب، ومع حصولي على الإقامة الدائمة سأحصل على الجنسية كذلك بعد عدة سنوات لن يتجاوز عددها عدد أصابع اليد الواحدة، فهل ستصبح السويد بعد ذلك وطناً لي؟ لا أظن ذلك، فمجرد امتلاكي لهذه الوريقات التي تُدعى بجواز السفر لا تجعل من السويد وطناً، لأن الوطن ليس عبارةً عن أوراق ولا قوانين، الوطن أكبر من هذا بكثير. عندما أدركت أن الوطن لا يُعبَّر عنه بجواز السفر ولا بالمكان الذي عشت فيه أو وُلدت على أرضه تساءلت حقاً عن معنى كلمة: وطن، وهل تُستخدم هذه الكلمة مع من هم مثلي؟ ثم هل يُعقل أن أعيش وأموت بلا "وطن"؟ لأنني لم أشعر حتى اليوم بانتماءٍ حقيقيٍ لبلدٍ محدد.

بعدها أضحيت لا أؤمن بالوطن كمنطقةٍ محددة، بل إن وطني هو أي مكانٍ أحط فيه رحالي وأسمع فيه تكبيرات الجوامع، أو أي أرضٍ أرتحل إليها وأتحدث مع الناس فيها بلغتي الأم، أو أي بقعةٍ أصلها لأجد الناس فيها يؤمنون بنفس القضايا التي أؤمن بها ونشترك مع بعضنا البعض في الدين والثقافة والتاريخ، هذا هو وطني، لا أؤمن ببقعةٍ جغرافيةٍ واحدةٍ كوطن، ولا أؤمن بحدودٍ مفتعلةٍ أقرّتها القوى الاستعمارية وما زلنا نتقاتل عليها وكأنها أزليّة، وطني أكبر من سوريا والسعودية بكثير، ووطني أكبر من الجزائر والعراق وتركيا وماليزيا والمغرب، وطني أكبر من كل هذه المسميّات المُستحدثة في غالبها.
اكتشفت أن عدم الانتماء إلى بلدٍ محدد هو أجدى بكثيرٍ من أن يبقى الإنسان حبيس بلدٍ ومجتمعٍ واحدٍ فلا يستطيع الفكاك من طريقة تفكيره ولا تجاوز الحدود التي يرسمها له، عدم الانتماء سيجعل من الإنسان حراً في فكره وحياته، وسيجعله يتعاطف ويعمل أكثر نصرةً لكل القضايا العادلة بدلاً عن أن يتعاطف مع قضايا بلده الصغير فقط دوناً عن غيرها، وسيجعله ينظر للناس كلهم على أنهم سواسية، فلا فرق عنده بين أبناء بلده وباقي الناس، وسيجعله يدرك أن الدول في حالة تغير وتبدل مستمر، فما ندافع عنه اليوم ربما لا يصبح له وجود غداً، فقد ينقسم، وقد يندمج في دولةٍ أكبر ذات مسمى آخر، وكل هذا يجعلني أؤمن بوطنٍ كبير أكثر فأكثر بدلاً عن هذه الأوطان الصغيرة والممزقة.
سأظل أحمل وطني الكبير هذا في قلبي أينما ارتحلت، سأحمله من المحيط إلى الخليج، بل من أقاصي الصين إلى قلب إفريقيا، وطني ببساطة هو كل بلدٍ أدخلها وألقي السلام فأسمع القوم يردون: وعليكم السلام! هذا هو وطني الذي اخترته طوعاً وبكامل إرادتي وهو الذي سأبقى مخلصاً له ومؤمناً بقضاياه إلى الأبد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.