شعار قسم مدونات

لا أخطاء في رقصة التانغو

رقصة التانغو
استطاع آل باتشينو في فيلم "عطر امرأة" من خلال أدائه المذهل أن يجسّد تناقضات كثيرة في علاقة الكولونيل المتقاعد "سلايد" والفتى الشاب "تشارلي سيمز"، ورغم قصور النص بطريقة مفتعلة يسهل التنبؤ معها بمجريات الأحداث، فإن مشاهد كثيرة في الفيلم ثقبت الذاكرة، على رأسها رقصة الكولونيل مع الخجولة "دونا"، مشهد يصنّف واحدا من أعظم مشاهد آل باتشينو، بل لعله من أعظم مشاهد الرقص الخالدة في تاريخ السينما على الإطلاق، بأبعاده الروحية والحسيّة وفي سياقه الفلسفي.
 

لطالما تساءلت إثر هذا المشهد: كم رجلا التحق بناد للتدريب على رقصة التانغو؟ أو على الأقل كم رجلا ودّ لو أنه ببراعته؟ أتساءل كم امرأة تمنّت -ولو سرًا- أن يكون لها شريك قادر على مراقصتها على طريقة آل باتشينو في الفيلم، حتى لو كان ضريرًا حاد الطباع مسحوقا بآلام الحرب، فاقدا لبصره وأمجاده معًا. 
 

التانغو لغة رقص فريدة، تشبه كثيرًا قصص الحب بكل ما فيها من تناقضات

عطر دونا باغت الكولونيل دون سابق إنذار داخل مطعم فاخر، كانت تترقب قدوم مايكل الذي لم يأبه بوحدة الانتظار، هي أحبّت التانغو بالفعل، بل ورغبت في تعلمه، لكن مايكل -خطيبها المحتمل- كان يرى أنها "رقصة للمجانين"، "حسنًا مايكل إذًا لا يُطلب منك تعلمه؟ أعتقد بأن مايكل هو المجنون"، دعيني أعلمك التانغو، ترتبك معللّة: "أخاف الخطأ"، يجيبها الكولونيل، "لا أخطاء في رقصة التانغو يا دونا، فهي ليست كالحياة، وإذا ما ارتكبتِ خطأ، فقط استمري في الرقص.. وهذا ما يجعل التانغو عظيمة".. كيف يمكن لجملة قصيرة كهذه أن تختصر فلسفة كون بأكمله؟

التانغو لغة رقص فريدة، تشبه كثيرًا قصص الحب بكل ما فيها من تناقضات، لا قانون في التانغو، رقصة لا مثالية فيها، ارتجال غامض مليء بالأخطاء التي تعزف لحن التناغم، بين عاشق جسور يقود خطوات شريكه، ومعشوق يراوغ بخفّة دون فقدان الانسجام في ذاته.. رجل مُحب للتسيّد اللذيذ، وامرأة تجيد التملّص بإغواء ودلال.. إنها لعبة عادلة.

بدا ذلك جليا على وجه دونا، تلك الشهقة المتقطعة لحظة الالتحام، الدهشة المستمرة في مطاردة الخطوات، الضحكة الخفيّة مع اختلال التوزان، القفز من رتابة الانتظار لسحر المغامرة، بين النأي تارة والقرب في أخرى. لا خطأ يا دونا في ذلك، لا خطأ حتى لو تعثرت خطواتك الصغيرة، لا خطأ ما دامت هذه الرقصة قادرة على تحريرك، لا خطأ ما دمنا نقدم على جنون التانغو برغبة تامة، لا خطأ ما دامت عثراتنا تصاغ بنشوة التجربة.

سلايد صحِب تلك الرقيقة في رقصة خالدة وهو يضمر نية الانتحار، كانت لديه رغبات قليلة يحفظها جيدًا، أهمها مراقصة امرأة جميلة بعطر نافذ يستدلّ من خلاله عليها، رقصة لا لأجل المتعة، بل رغبة في رحيل يليق بكبرياء شخص عصابي مثله.

خطوات التانغو الارتجالية هي التي ألهمت الأرجنتيني بورخيس رسم قصائده

لماذا التانغو؟ التانغو هي الوليد الشرعي لرقصة الفلامنكو، حزن يأتي بعد غضب وانهزام في الثورة، حنين المهاجرين المتعبين في أميركا اللاتينية، أسى وُلد لجارات القمر في بيوت التنك ودور البغاء بين ثكنات العسكر، لم يعدم هذا الأسى أهزوجته حتى في صالات الأرستقراطيين وبين عزف البرجوازيين. رقصة "ذات طبيعة مرتدة" على خلاف كل رقصات العالم، على حدّ وصف الأرجنتيني الشغوف أرنستو ساباتو، وهي أيضًا "تعبير صائب عن الصفة الأساسية لشخصية الأرجنتيني: تلك المرارة، النوستالجيا، والنزوع إلى التأمل، وخيبة الأمل".
 

خطوات التانغو الارتجالية هي التي ألهمت الأرجنتيني بورخيس رسم قصائده: "لغة بهيجة، حادة، شجاعة في البداية لتصبح بعدها عاطفية". كان بورخيس يغار على التانغو من التحولات التي طرأت عليه، يكره عولمته، ويرى روح الرقصة الأولى بين المهاجرين الفقراء والعبيد السود، وثيقة شعبية ومرآة حُرة فقدت مع تحوير كلمات الأغنيات الأولى، تلك الأهازيج التي "افتقرت للحشمة والمنطق معًا". كيف يمكن لرقصة لا خطأ فيها، رقصة تُبنى على الرغبة والارتجال وحُب اللحظة، كيف يمكن أن تتحول فجأة إلى انفعالات مُقننّة وخطوات مدروسة بين حدود مرسومة بعناية؟

نعود لرقصة آل باتشينو؛ دونا مضت مع مايكل بعد لحظات لا تنسى من التانغو، لم يظهر مصيرها بعد تلك الدقائق المدهشة في الفيلم، هل أكملت حياتها معه واعتنقت دين الملل، أما أن تلك الدقائق كانت كفيلة بتغيير مسار كونها كله؟ التانغو تخبرنا مرة أخيرة "أنّ حياة كاملة من الممكن أن تعاش خلال دقيقة واحدة"، لا تشاركوا دقائقكم مع من لا يحب رقصة التانغو، ارقصوا التانغو ولو مرة يتيمة، من يرقص التانغو يولد من جديد.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان