غير أن ما كُتِب من قبل مما يمكن اعتباره تدوينا بمعايير اليوم، يمتاز عن التدوين الحديث بأمر بالغ الأهمّية، وهو أن التدوين القديم كان نمطا يختارُه كُتّابُه، أما التدوين اليوم فهو نمطٌ يختار كتّابَه.
التدوين حالة ليبراليّة عالية الذاتيّة، مفرطة الأنوية، لا تربط نفسَها بالضرورة بالتزام أخلاقيّ، ولا بمعركة وعي من أيّ نوع |
ليس صعبا تفسيرُ التدوين بردّه إلى نزعات امتازت بها عصور الإنسان الحديث، فمن المقنع إلى حدّ بعيد وصف التدوين باعتباره نمطا ما بعد حداثيّ في الكتابة، من حيث نفوره من ضوابط الشكل والأسلوب، ومن حيث ذاتيّته العالية التي تفسّر نفسَها بالرجوع إلى نفسها، غيرَ عابئة بضابط عقلانيّ أو غائيّ من أي نوع، ومن حيث كون التدوينات في أغلبِها الأعمّ "قصصا صغرى" لا تعبأ بقياس موقعها وجدواها إلى سرديّات كبرى من أيّ نوع.
ومن المقنع اعتبار التدوين حالة من "الواقع الفائق" بتعبير جان بودريارد، أي عددا لانهائيا من الخطابات التي تتوخّى توصيف الواقع أو نقله أو تفسيره، وبالتالي زوايا لانهائية للنظر، وبالتالي كاميرات تلتقط صورا بالغة الاختلاف للحدث، إلى الحدّ الذي ينفي قيام حدث من الأصل.
ومن المقنع كذلك اعتبار التدوين حالة ليبراليّة عالية الذاتيّة، مفرطة الأنوية، لا تربط نفسَها بالضرورة بالتزام أخلاقيّ، ولا بمعركة وعي من أيّ نوع.
ويمكن في السياق ذاته اعتبار التدوين شكلا من المجال العامّ، المستقلّ من جهة عن السياسة، والمستقلّ من جهة أخرى عن السّوق، أي مجالا مرشّحا لأن ينطبق عليه بالضبط توصيف الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس للمجال العامّ، لولا اختلافات أساسيّة شديدة الأثر.
ففضاءات التدوين هي فضاءات قول أكثر منها فضاءات حوار، مساحات قول لا مساحات تقاوُل.
ينطوي التدوين على خطورة وفرصة في الوقت نفسه، خطورة الانسحاب السلبيّ، وفرصة تكوين خطابات بديلة ومتنوّعة |
قد تفتح هذه الفضاءات مساحات للتعليق والاعتراض، لكنّ هذه المساحات لا تضمن بالضرورة حوارا متكافئا، بل يصدق عليها نقد الفيلسوفة الأميركية نانسي فريزر لفكرة المجال العام عند هابرماس، التي سبقت الإشارة إليها، فهي فضاءات محكومة سلفا بسيميائيات خفيّة أو ظاهرة، تُرسّخ علاقات سلطة مُسبَقة يتحدّد من خلالها القويّ والضعيف، ومسموع الكلمة والمهمَّش، واليد العليا واليد الدنيا.
لكنّ فضاءات التدوين بالذات تمتلك الميزة التي أشارت إليها فريزر، أي تمكين الخطابات الهامشيّة وغير المسموعة من أن تكوّنَ نفسَها بعيدا عن علاقات الهيمنة، بأن تصقلَ خطابَها وتبني حجاجَها وتحشدَ أنصارَها من دون أن تخوضَ صراعات مبكّرة وغير متكافئة مع الخطابات المهيمنة.
وقد تُنشئ هذه الفضاءات حواراتٍ "بالتسامُع"، أي أن ينتقل خطابُ بعضِها إلى بعض، فتقومُ حواراتٌ بالإشارة والإيماء إلى الرأي المخالف، وإن من دون تسمية صاحبِه علنا، أي على طريقة "ما بال أقوام"، فيقوم حوار من دون أن يقوم حوار، ولهذا ميزة حواريّة شديدة الأهمّية، ألا وهي أن الحوار لا يتخذ شكل مباراة منطقيّة تقوم على حجج منطقية قصيرة وسريعة في مواجهة حجج منطقيّة قصيرة وسريعة، بل يتّخذ شكلَ خطاب في مواجهة خطاب، بل بالأحرى، يتخذ شكلَ خطاب بإزاء خطاب، أو إلى جوار خطاب، من دون فكرة المقابلة المنطقية من أساسها.
بالتالي، ينطوي التدوين على خطورة وفرصة في الوقت نفسه، خطورة الانسحاب السلبيّ إلى حالة من اللاخِطابات، وفرصة تكوين خطابات بديلة ومتنوّعة، تتنامى إلى درجة إجبار الخطابات المهيمنة على أن تخوض حوارا معها على أرضيّة مفتوحة، وغير محددة القواعد سلفا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.