شعار قسم مدونات

فنجان قهوة.. انتحار جماعي

blogس-women

لا أعرف لماذا اخترت هذا العنوان، ولكنه التعبير الوحيد الذي استطعت أن أفكر فيه وأنا أُقدم على كتابة مدونة هذا الأسبوع.
 

كما هو متوقع فإن عدداً من التعليقات على مدونتي السابقة "عندما أحرقنا خديجة!" اعترضت على كوني حمّلت المسؤولية للرجال وليس للقانون والمجتمع والتربية، وهو سلوك مجتمعي تقليدي في التبرير للرجل ومحاولة إلقاء اللوم على الظروف المحيطة، في حين أنني لو كنت تعرضت لمسألة تتعلق بالمرأة لكان ردّ الفعل مختلفاً.. ولكن لا بأس، فلنتجاوز هذه النقطة.
 

لا أؤمن بتقسيم المجتمع إلى فئات تحارب كل فئة فيها من أجل أن تحتفظ بحقوقها فيتحول محيطنا إلى ساحة حرب يُصَوّب الجميع سهامهم تجاه الآخرين، النساء والرجال والمعلمون والعمال والحرفيون والمثقفون.. إلى آخرها من "فئات" وتصنيفات، والواقع هو أن قضيتنا مشتركة وهي تحقيق حياة كريمة للجميع.
 

المرأة اختُزلت في مجموعة من المواصفات التي تحدد بها نفسها، فإن انتُزعت منها أحست بأنها لم تعد تملك ما تقف به أمام الناس

لذلك فأنا عندما أتحدث عن النظرة الذكورية المسيطرة التي تعتمد الجنس أداة التقييم الأساسية في المجتمع فذلك لأن هذا هو السائد، ولأن هذه المنظومة هي التي تحرك الكثير من السلوكيات الجائرة في حق النساء، ولا ينفي هذا مشاركة النساء أنفسهن في تشكيل مثل هذه البيئة المتحيزة بعد أن يتبنَيْن تلك المنظومة ويورثنها لأبنائهن وبناتهن.

سوف أضرب بعض الأمثلة حتى أُقرّب المسألة ولا أفعل ذلك حتى يشعر الرجال بالتحسن لأنهم ليسوا مصدر الشر المطلق (مع العلم أنني لم أقل ما يوحي بذلك)، ولا حتى أُحمّل النساء المسؤولية التامة ولكن حتى نعِي أننا كلنا نشارك بموهبتنا في صنع الشياطين.
 

أبدأ بواقعة سمعنا عنها منذ فترة وجيزة، رجل ضرب زوجته في ليلة الزواج حتى تسبب لها بغيبوبة. الدّافع؟، والدته المبجلة والمربية القديرة أشارت عليه بأن يضربها منذ اللحظة الأولى حتى "يكسر رأسها" فتنصاع له ما بقيت الحياة، وقد كسر رأسها بالفعل! (لن أعلق كثيراً هنا فالحادثة وحدها تكفي).
 

عزيزتي الأم التي تردد: من ذلك الرجل الذي سينظر إليك وأنت تخرجين هكذا بدون حتى خط كحل في عينيك؟، كيف ستتزوجين وأنت لا تذهبين إلى الأفراح والمناسبات وتلبسين ثيابًا تظهر أنوثتك وجمالك؟ ابنة خالتك "علّقت" زميلها في العمل وأنت خائبة لا تعرفين كيف تصطادين عريساً، أفكر أن أبحث عن زوجة ثانية لابني فزوجته بعد أن أنجبت لم تعد كالسابق ومن حقه أن يتمتع بشبابه، زوجة ابني المسكين تطلب منه مساعدتها في المنزل ألا تكفيه الوظيفة لو أنه مازال عندي لما تركته يلمس شيئاً!، حماة ابنتي تتدخل بين ابنتي وزوجها ولا تريد له أن يساعدها في المنزل على الرغم من أنها أنجبت للتو (انفصام في الشخصية وتهتّك في المنطق!).
 

عزيزتي الفتاة التي تراه سلوكاً متخلفاً وعنصرياً أن تحجم الخالة عن خطبتك لابنها الذي كنت معجبة به لأنك لستِ طويلة بما فيه الكفاية، وفي نفس الوقت تنتقدين اختيار أخيكِ لزوجته المستقبلية لأنها أطول من اللازم!، عزيزتي التي تحس بالظلم لأن والدها لا يثق فيها بما فيه الكفاية لكي يتركها تسافر للدراسة، وفي نفس الوقت تصدر أحكاماً على صديقتها التي سافرت بأنها منحلة أخلاقياً!، عزيزتي التي تنخرط في علاقات متعددة وتخرج منها منكسرة القلب، ثم تقول لأمها بأن خطيبة أخيها كانت تخرج معه قبل الخطبة وعليهم أن يفسخوا الاتفاق فكيف نعرف بأنها لم تخرج مع عشرة آخرين وأنت تعرفين تماماً بأفعال أخيك السوداء! (شيزوفرينيا في القيم واعوجاج في المبادئ!)
 

نعرف كلنا كيف تساهم النساء أنفسهن في تعزيز ممارسات المجتمع الظالمة لهن، ونعرف كيف يرضخن لتلك الممارسات، ونعرف أن الفئة المباركة التي ترفض وتحاول أن تغير شيئاً يتم التطاول عليها والاستهزاء بها والنظر إليها بازدراء وكأنها أحدثت بدعاً في قانون البشرية النبيل.

 

ولكن علينا أيضاً أن نعترف بأن من النساء من استعبدتهن أنوثتهن المصطنعة استعباداً أصبحن يهاجمن به من يحاول أن يرفع عنهن الظلم، أو يقوّم سلوكاً مشوهاً لا يمت للفضيلة بصلة!، وذلك ببساطة لأن المرأة اختُزلت في مجموعة من المواصفات التي تحدد بها نفسها، فإن انتُزعت منها أحست بأنها لم تعد تملك ما تقف به أمام الناس، وعليها أن تعثر على كيان جديد لا يعتمد بصورة أساسية ومحورية على جسدها أو قدراتها الأنثوية المفترضة!
 

قرأت منذ أسابيع عن رجل قتل أخته لأنها تزوجت من شخص لا ينتمي لنفس الطبقة الاجتماعية، تقدمت الأم للشرطة بأنها القاتلة حتى تحمي ابنها المجرم، تلك المرأة التي يتدخل الناس لحمايتها من زوجها الذي كاد أن يقتلها عدة مرات في "فورات غضبه" وترفض هي مساعدة الناس لأنه "زوجها وتاج رأسها" ولأنه "طيب لولا فقدانه لأعصابه" وما هي إلّا أيام حتى نسمع خبر وفاتها متأثرة بآخر "فورة غضب".
 

أجاهد يوميا كي ننظر للعلاقة بين الرجل والمرأة وطبيعة العلاقة بينهما على أنها مهمة مجتمعية هدفها إحقاق الحقوق وتقويم السلوك العام.

أعرف جيداً بقصور منظومتنا المجتمعية والقانونية عن توفير الدعم والحماية للنساء، ليست كل امرأة قادرة على اتخاذ قرار بترك زوجها لأسباب ماديّة واجتماعية، ولكنني أعني أولئك النسوة الراضحات من الداخل، المتقبلات للأذى المتعايشات معه دون حراك على الرغم من استطاعتهن!
 

أنا على يقين بأن هناك من ستتفتق قريحته عن استنتاج ألمعي يقضي بأنني أريد أن أفكك الأسر وأخرب البيوت وأعبث "بعاداتنا" ومنظومتنا المقدسة، لأن مراجعة المنظومة تقتضي تحمل مسؤولية إصلاحها ولا أحد يريد أن يبذل ذلك الجهد ويغادر الأريحية إلى المدافعة ومجاهدة النفس، ومن المؤسف أن الرجال يظنون بأن تغيير هذه المنظومة يضرهم ويدفع "نساءهم" إلى التمرد، ويكدر عليهم صفو الحياة.. لأنهم ببساطة يتبنون مبدأ المواجهة الذي تحدثت عنه في البداية، لا يُنظر إلى النساء وكأنهن شريكات لهم في الحياة وأن الدور الذي يلعبنه أياً يكن ينبغي أن يأتي بالتراضي لا بالقهر والإجبار.
 

أنا لا أتحدث عن صراع بين الجنسين كما يصوّره البعض، وأجاهد كل يوم حتى لا يؤخذ كلامي على أنه اختزال للرجل في تجاوزاته وللمرأة في كونها ضحية، بل حتى ننظر إلى هذه القضية وغيرها على أنها مهمة مجتمعية هدفها إحقاق الحقوق وتقويم السلوك العام. هناك هوامش يمكن تركها للاتفاق بين الأطراف ولكن هناك ثوابت ليست خاضعة للنقاش!

لأننا ببساطة كمجتمع – بكل فئاته – إن لم نتفهم ضرورة هذه المراجعة وأهمية التخلي عن مبدأ المواجهة العدائية هذا، فنحن نسير بخطىً واثقة ورؤوس شامخة وكبرياء متضخم نحو حافة الهاوية حتى نتشارك معاً – وإن كنت أفضل أن نتشارك في شيء مبهج قليلاً – في انتحار جماعي مهيب.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان