(1)
رحلة الحج عودة طبيعية لحقيقتك؛ إنك وحدك تواجه حظوظك من الدنيا، تئنُ وحدك وتشعر بصعقات جسدك أنت فقط، ثم أيضاً تموت وحدك. |
(2)
التطلع للمساواة في هذه الحياة الدنيا طموحٌ نسبي؛ لأن إطلاق العنان لخيالك أن تتحقق المساواة بمثالية متقنة جنونٌ لا يليق بعقلك وبواقع الحياة الصغرى.. وحْدَهُ مشهد الحج يلغي النسبية ويلفظها بعيداً هناك حيث حاضنتها الدنيا، وبوصف المشهد النُسُكي صورة مصغّْرة من مشاهد اليوم الآخر، يوم الصدق والعدل.. والمساواة أيضاً.
(3)
خياراتنا هنا ليست دنيوية، صحيح أن من مظاهر الحج أن يشهد الناسُ منافعَ لهم. لكنها ليست الغاية بقدر ما هي وسيلة لإتمام الفريضة. رحلة الحج عودة طبيعية لحقيقتك؛ أنك وحدك تواجه حظوظك من الدنيا، تئنُ وحدك وتشعر بصعقات جسدك أنت فقط. ثم أيضاً تموت وحدك، وفي النهاية "وَكُلُّهُمْ آتْيْهِ يَوْمَ القِيْامَةِ فَرْدْا".
(4)
يبذل المسلمون منذ أزمانٍ بعيدة مُهَجَهُم وأموالهم. وتهفوا قلوبُهم لقصدِ بَكَتِهِم وطَيْبَتِهِم، ملبين ومنقطعين للتبتُّل إلى الله تاركين ورائهم سنواتهم الغابرة في تيهِ الدنيا ونيل مطالبها غِلابا.
منفرداً عن رفيق آنسُ بصحبته، وراكب أكون في جملته، لباعثٍ على النفس شديد العزائم، وشوق إلى تلك المعاهد الشريفة كامنٌ في الحيازم. فحزمت أمري على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور، وكان والداي بقيد الحياة فتحمّْلتُ لبعدهما وصباً، ولقيت كما لقيا نصباً. وسني يومئذٍ اثنتان وعشرون سنة".
وفي أخطار السفر ووعثائه وكآبات المنظر التي تعبره، يقول الرحالة ابن جبير في وصف موقف عصيب: " وطرأ علينا من مقابلة البر في الليل هولُ عظيم. عَصَمَ الله منه بريح أرسلها في الحين من تلقاء البحر، فأخرجنا عنه، والحمد لله على ذلك".
أيها الحجّاج: في غمرة دعاءاتكم وتوباتكم ونوبات بكائكم ندماً على الماضي، لا تنسوا ألم أمتكم، اجعلوا لأمتكم في هذا المشرق البائس منها نصيب |
قضى ابن جبير وأصحابه شهراً كاملاً في طريق البحر للوصول إلى الإسكندرية. كانت مغادرتهم لضواحي إشبيليةَ في التاسع والعشرين من شوال ووصولهم إلى الإسكندرية في التاسع والعشرين من ذي القعدة. ولم يبقى على أداء الفريضة سوى اسبوع. لكن الحقيقة أن ابن جبير وأصحابه قد أدوا النسك في العام التالي، لأن أسبوعاً واحداً لا يكفي للوصول إلى مكة من الإسكندرية!.
(5)
يتزود الحاج ببعض الكتيبات الإرشادية ليؤدي المناسك على أفضل وجه. ولكن الزاد الأكثر إلحاحاً وحاجة هو التَفَكُر. حين يتأمل الحاج واقعه المعاش وهذا العالم من حوله، يدرك أن الظلم قد أسدل ستاره الغاشم ليحولَ دون انبعاث ضياء الحق والعدل على ثرى أرضنا. يعلم أن الكذب بضاعة مُزْجاة يستبطنها هذا العصر من عصور البشرية. ويتداركه بصيصُ وعيٍ بأن سراباً قاتلاً يقتل أحلامنا في كل يوم ولا سبيل لمواجهته إلا بالإيمان واليقين والصبر.
في طريق حجكم لهذا العام، براً وبحراً وجواً، تدركون يا ضيوف الرحمن كيف يئنُّ عالمنا العربي والإسلامي تحت وطأة المحن. القتل والتشريد الممنهج وازدواجية المعايير وخذلان الشعوب المقهورة تحت وصاية ما يطلقون عليه "مجتمعاً دولياً). في غمرة دعاءاتكم وتوباتكم ونوبات بكائكم ندماً على الماضي، لا تنسوا ألم أمتكم، اجعلوا لأمتكم في هذا المشرق البائس منها نصيب. من يدري فلعلَّ دعاء أشعث أكبر منكم سبباً ليرفعَ الله عنا ما أصابنا ويهيء لنا من أمرنا رشدا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.