لا نستطيع فهم ما يجري بالمطلق رغم كوننا جزء منه، وحتى لو كنا في وضع المراقب فقط، نحن بأمس الحاجة الآن للخروج فكرياً من صندوق الأحداث الدموي الذي يجري في منطقتنا العربية ويغلي مرجله بهدوء، قد يكون قابل للانفجار في العالم أيضاً متمثلاً بداية بتأرجح أسعار الدولار والنفط ورواج تجارة الأسلحة بسوقيها وانتهاء بمخاوف الكوارث الطبيعية والاحتباس الحراري.
لست بمعرض الحديث عن جزئيات ما يحدث في المنطقة العربية من حمامات دم ومؤامرات وتحالفات ومصالح.. إذ أنه (وهذا المهم) بلا شك عائدها السلبي حتماً للفرد في مجتمعنا شاء أم أبى، ومعرفة هذا العائد وضريبته على الفرد تكاد تكون شبه كافية للتفكير بشكل مختلف، وليس فقط استراق النظر لما يجري عبر ثقب في جدارالوطنية التي ننتمي إليها أو الولاء أو الإنتماء والتوجه الديني والسياسي والجغرافي.. الخ.
في أواسط عام 2008 تشرفت بلقاء أحد أقطاب التدريب والبحث في مجال "إدارة المعرفة" وهو من التخصصات بالغة الصعوبة بمكان.. كونها تعتمد على الفهم العلمي لأحداث التاريخ وكيف تناقلت الأجيال المعرفة بدءاً من النحت على الصخور حتى تخزين البيانات على وسائل التخزين الإلكترونية.
انتقال دفة نقل المعارف من المصادر الحصرية إلى الأفراد مباشرة وخلال سنوات قليلة هو النقلة التاريخية التي تؤثرالآن في العالم |
حينها قال لي عبارات تكاد تشبع أفكاري كلها الآن، لأن كل ما يجري هو ترجمة لما قاله من استقراء واضح للأحداث قبل حدوثها.. هو ليس تنبؤ بمواقع النجوم ولا أوهاماً عقلية يمليها العقل المتعجرف المتفوق على صاحبه.. هي نظرة علمية تحليلة مجردة.
يقول "لقد دخلنا الآن بداية التغيير الحقيقي"، استوقفتني هذه العبارة فسألته عن المقصود بالتغيير كون المنطقة في تلك السنة لم تكن تعاني حروبا دموية ولا أحداثا مفصلية، إلا الحديث عن أزمة مالية وهمية خيوط التحكم بها في يد صانعها.
أجاب "أنا لا أتحدث عن تغيير في جغرافيا المنطقة ولا في الاقتصاد ولا في الحروب ولا أي شيء مما نراه.. أنا أتحدث عن التغيير المتمثل بفرد سيصبح في المقدمة، بعد أن حكمت المعرفة كل من المؤسسات والجماعات والأقطاب في العالم واستأثرت لنفسها أحادية المصدر.. أصبح الآن الفرد في المقدمة.. إنها البداية والسنوات القليلة القادمة كفيلة بإظهار هذا التغيير الخطير والمفصلي في حياة البشرية".
في تلك الفترة كانت مواقع التواصل الاجتماعي في بدايتها في عالمنا العربي، يجهل أغلبنا التفريق بينها وبين المنتديات الإلكترونية.
وما هي إلا سنوات قليلة وغزت شبكات التواصل الاجتماعي كل منزل وفرد ومؤسسة وجهاز محمول.. أصبح فيها الفرد قادراً على رؤية العالم بشكل حر بعيداً عن القوالب التي وضعها له الإعلام العالمي والمصادر المحلية لما يزيد عن قرن من احتكار المصدر.
عاطفتنا حتى الآن تأسرنا حينما نذكر العبارة الشهيرة "من القاهرة هنا دمشق" أو العكس.. لكنها بالواقع كانت في حقبة تأسيس الدكتاتوريات العربية والتسويق الإعلامي لها باسم القومية العربية.. هنا ليست المشكلة في احتكار المصدر بتاتاً.. الطامة الكبرى أن مصادر المعرفة لما يجري لم تكن بتاتاً نزيهة في نقل ما يجري في العالم.
لم يكن الموضوع مقتصرأعلى مصادرالإعلام، في الواقع كانت الأدلجة والتبعية تتغلغل في كل مصادر المعرفة، إذاعات مسموعة ومرئية، صحف ومجلات، مدراس وجامعات، ومساجد وكنائس ودور عبادة، أحزاب وجماعات، كل هذه المصادر شكلت خلفها أرتالاً من التابعين يكاد يندر فيها الشذوذ والخروج عن الرتل والتفكير خارجه، والمغرد خارج السرب هو عميل والكثير من الشخصيات الفذة في العالم تم تصفيتها إثر ذلك.
يا ترى.. كم وصلتنا من المعلومات المشوهة في المائة عام الأخيرة؟، كم غُيّب عنا تاريخ؟ نحن بأمس الحاجة لفهم ما جرى فيه من أحداث مفصلية، الشيء الوحيد الذي وصلنا بشكله الصحيح هو التكنولوجيا والتي لا مجال لإخفائها كونها حاجة ماسة بعدما عاث العالم بنفسه كل أنواع الخراب في الحربين العالميتين الأولى والثانية وما تلاهما من حروب بالوكالة وخاصة خلال الحرب الباردة.
إن انتقال دفة نقل المعارف من المصادر الحصرية إلى الأفراد مباشرة وخلال سنوات قليلة هو النقلة التاريخية التي تؤثر الآن في العالم، لا يقتصر الموضوع هنا على نقل المعرفة وإنما إنتاجها ونشرها بزمن قياسي قد لا يتجاوز دقائق معدودة.
منذ عشرين عاماً أرسلت رسالة لبرنامج قانوني يعرض في إذاعة محلية في بلدي.. انتظرت عدة أشهر وأنا أتابع البرنامج أسبوعياً لعل المقدم يطرح هذه القضية.. بعد خمسة أشهر سمعت بنبأ وفاة هذا المحامي المشهور وذهبت فكرتي أدراج الرياح، الآن أنا وكل المغردين والمدونين قادرون على نشر أفكار بدون قوالب ولا انتظارالخضوع لفحص الأدلجة من الناشر.
أنت تحت المراقبة كفرد ولو كنت تعمل من الفضاء.. لكنك أيضاً تحت الأضواء وكلامك مسموع وما تنقله يصل |
أصبح كل فرد منا من أقصى الأرض إلى أدناها مؤسسة إعلامية متحركة مهما دنت في صغرها.. مصدر معرفي مهما كان مستواه العلمي، ألا نتعجب نحن فئة الأكاديميين من عشرات آلالف البسطاء تنشر أفكارها أو تنقل أفكار الغير بكل سهولة عبر شبكات التواصل الاجتماعي؟، هذه النقلة النوعية وغير المتحكم بها كما نظن هي نقلة جوهرية في حياة البشرية.
قد تكلف معلومة ما يراد إيصالها من قبل المصادر الحصرية آلاف الدولارات ما بين البحث والسفر والمونتاج وخضوعها للتوجيه أوالتزوير والإنقاص والتحريف، أما الآن تصوير مقطع صغير على جهاز محمول أكثر من كاف لإثبات ما يجري عبر توثيق بسيط ومجاني.
في مصر واليمن وسوريا وليبيا وتونس.. هل وثقت قنوات الأخبار ما يزيد عن 2 بالمائة مما وثقه الأفراد؟
هناك دراسة تقول إن ما يزيد عن 2 مليون دقيقة توثيق مصوّر لأحداث سوريا جرت في أول عامين ونصف، هل تستطيع أي محطة تلفزيونية إنجاز هذه العمل؟، ألا تقوم الآن محطات العالم بنقل ما يوثقه الأفراد على أنه مصدر للمعلومة والمعرفة؟
الخروج عن دائرة التبعية والأدلجة والمصدرالأحادي بلا شك يتم محاربته بكل الوسائل، هي ليست محاربة لقطع المصدر الفردي هذا.. هي بكل بساطة لأدلجته وصناعة تبعية ما له، حتى يبقى قدر الإمكان ضمن السيطرة.. لأنه ببساطة أصبح مصدرا موثوقا، وكمثال على ذلك من أولى التجارب في نقل المعلومات من المصدر الاحتكاري التقليدي إلى الفرد كانت تسريبات ويكيليكس.. الآن هذه التسريبات أصبحت مصدر شك لدى الكثيرين، نعم ربما تم أدلجتها وتعليبها بما يتناسب مع السياسة العالمية.
نعم.. أنت تحت المراقبة كفرد ولو كنت تعمل من الفضاء.. لكنك أيضاً تحت الأضواء وكلامك مسموع وما تنقله يصل.. وما تقوله يقرأ.. وما تفكر به ينتقل إلى غيرك.. أنت الآن عقدة في شبكة معرفة هي الأضخم في التاريخ، أنت تعيش مرحلة تغيير جذري في الحياة البشرية دون أن تدري، أنت جزء من التوثيق والحقيقة، أنت مصدر للمعلومة مهما كانت بسيطة، ستكون أنت التاريخ الصحيح لما يليك من أجيال، بدء من الجيل الحالي وإلى أجيال قادمة.. فكن أميناً.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.