من على سطح المبنى المقابل يتدلى نورس. تعلق بمنقاره بحافة البناء والأسلاك المتشابكة عليه، وأرخى جسمه في الهواء. يكاد طرف جناحيه المنسدلين أن يظهر في نافذة المنزل الذي تحته، لكن يبدو أن الحاجب الإسمنتي يحول دون ذلك. المشهد في المقابل واضح تماماً من نافذتي. لا بل من نوافذي كلها.
كيفما تحركت داخل المنزل ظهر ذلك النورس متدلياً من عنقه. ظننت أنها طريقته ليرتاح في يوم صيف حار ورطب.. استغرقني وقت لاستوعب أنه ميت. ميت ولم يدفعه ثقل جسمه أو ارتخاء عضلاته نحو الأرض. منطق الجاذبية يقتضي أن يقع، لكنه بقي هكذا معلقاً قبالتي، مترنحاً في الهواء.
لعله انتحر. فتلك وضعية الانتحار المثلى. يحكى أن النسور تنتحر، وبعض الحيوانات أيضاً حين المرض والعجز. لكني لا أعلم إن كانت النوارس أيضاً تقدم على وضع حد لحياتها. النوارس التي تحوم فوق أسطح اسطنبول وعند شواطئها، وتحضر في البطاقات التذكارية واللوحات، وتشكل خلفية اللقطات الرومانسية.
المربك أكثر ان بقية النوارس التي تحوم عادة فوق اسطح الحي هجرته لليوم الثاني على التوالي. تركته هناك وحيداً في موته. |
تلك الطيور تصدر آهات حزينة ليلا، حزينة حد البكاء. كرهتها في البداية. كنت أخاف حجمها ونعيقها فيما يعيدني طيرانها أسراباً منخفضة إلى فيلم "الطيور" لهيتشكوك.
ولا أنتصر على خوفي ذاك إلا حين أرى نفسي أقوم باصطيادها. أنا أصلا لست ضد صيد العصافير وأكلها. وأتلذذ بالصغير منها مقرمشاً ساخناً. وأعجب من أصدقاء يرون في ذلك وحشية ويلتهمون الأسماك الصغيرة كحبات فستق. جدالنا حول أحقية الحياة لصغار الطيور أو الأسماك لا ينتهي.
لكن الموت المسرحي لذلك النورس المعلق قبالتي، قلب المعادلة. مربك هو في انتحاره. (نعم قررت أنه انتحر). ثم تذكرت فيلماً مغدقاً في "الكيتش" رافق مراهقة جيلي عنوانه "العصافير تختبىء لتموت"، وصرت أسائل الطير الجاثم أمامي لماذا اختار هذا الموت العلني؟ لماذا لم يختبئ هو أيضاً ليرحل بصمت؟
والمربك أكثر أن بقية النوارس التي تحوم عادة فوق أسطح الحي هجرته لليوم الثاني على التوالي. تركته هناك وحيداً في موته. وحيد تماماً كما هو الانتحار. لعل النورس أقدم على فعلته تلك فجراً، كما هي حال غالبية المنتحرين. ذاك أن للانتحار مواقيت ومواسم.
ذروته فصل الربيع، وساعات الصباح الأولى، على ما يقول العارفون وتشير الأرقام. ويبدو أن مرد ذلك هو درجة انسداد الأفق التي تكشفها البدايات وما تطلبه من تفاؤل لا يقوى صاحبه على مواجهته.. كبزوغ يوم جديد أو انطلاق فصل يبشر بالحياة. أما الأكثر إيلاماً فهو أن المنتحر نفسه يحتاج لجرعة "تفاؤل" ضئيلة وكافية لأن تمنحه قوة لاحتضان النهاية. تلك الجرعة يضخها ربيع مبشّر أو نهار حديث الولادة.
ألتقط صورة للنورس، ابثها على "فايسبوك" تخفيفاً لضررها علي. لكني أكتشف أصدقاء تداولوا صورة لجميعة ما تدعو لمسيرة توعية ضد الانتحار يوم السبت المقبل في الخامسة فجراً على كورنيش بيروت. كم السخرية الذي رافق موعد انطلاق المسيرة على اعتبار أن الانتحار أرحم من الاستيقاظ في الخامسة فجراً تجاهل كلياً الرقم الصادم في أعلى الدعوة. في لبنان، ينتحر شخص كل 3 أيام.
هل لنا أن نتخيل ذلك؟؟ أقول لا شك اختاروا موعد المسيرة تزامناً مع مواقيت الانتحار تلك.. لا أعرف. لكن الأكيد يبدو أن شخصاً ما يضع حداً لحياته كل ثلاثة أيام. أي أن هناك صباحان على الأقل في الأسبوع، يتدلى فيهما نورس من عنقه، يعلق في مكان ما بين البداية والنهاية.. وإذ يقاوم قانون الجاذبية يبقى هكذا متطايراً في الهواء بانتظار أن يأتي من يفك أسره مرة وإلى الأبد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.