شعار قسم مدونات

من الورد إلى الطب

blogs-طب

ما زلت أتذكر ريعان طفولتي عندما كانت والدتي ترى نتائج اختباراتي المدرسية وتمعن التركيز في جوابي لسؤال "ماذا تريد أن تصبح في المستقبل"؟ ويا لها من صدمة حين ترى "أريد أن أصبح مزارعاً" ترمقني بتلك النظرات التي لا تكاد تلبث قليلاً حتى تتبعها استفسارات كانت بالنسبة لعقلي الصغير غريبة، لماذا لا تريد أن تصبح كوالدك مهندساً أو معلماً مثلي أو اكتب مثل بقية زملائك في الصف وكن محاسباً ، مهندساً أو حتى طبيباً.
 

لم أكن لأخفي شغفي بحب النباتات والزهور تلك المخلوقات الرائعة ذات الألوان الزاهية المبهجة وكيف تشق تلك البذرة طريقها من الطين لتعطي برعماً يصير نباتا فزهرة، ولكم كنت أحب اقتناء بعض الزهور في سطح منزلنا وأقضي وقتي في مراقبتها تنمو وتزهر، كل ذلك كان يدفعني بديهياً لأكتب "أريد أن أصبح مزارعاً".
 

يحزنني أولئك المرضى الذين لا أستطيع عمل شيء لهم، وأسعد بدعوة مسنة تماثلت للشفاء وقد كنت المشرف على متابعتها وفحصها يومياً

مرت السنون على سكة العجلة ونحتت صعوباتها تضاريس أحلامي وغيرت معالم طموحاتي ونضجت فيها اعتقاداتي حتى جاء البشير قائلاً: مبارك لقد تم قبولك في كلية الطب.
 

لم أعلم ماذا ينتظرني هناك حتى وطأة قدماي ذلك المبنى الجميل وقادني شعوري لشاب خصلات شعره صفراء ظننته يشاركني هويتي السورية وكنت محقاً في ظني واستفسرت منه قائلاً "أين المدرج رقم ثلاثة؟" أشار إليه واتجهت للمدرج شاكراً.
 

من هنا بدأت مسيرة السبع العجاف على أمل أن يأتي ذلك العام الذي فيه أغاث وأعصر، لم أذق طعم الراحة ولا الهناء غارقا في كتبي لا أفقه كثيراً مما تقول، لا أكاد أنهي اختباراً حتى أخوض آخر، يحزنني أولئك المرضى الذين لا أستطيع عمل شيء لهم، وأسعد بدعوة مسنة تماثلت للشفاء وقد كنت المشرف على متابعتها وفحصها يومياً، أغادر المستشفى عابرا بجانب ثلاجة الموتى وصياح أم تنوح على فقدان فلذة كبدها يسمع الأصم ودموعها تكاد تشق في الأرض ينبوعا، أبلع دهشاتي وأحدث نفسي، يا إلهي ما هذا الجحيم الذي أقحمت نفسي داخله؟!
 

لعلي لم أجد متنفساً في هذه الكلية سوى في زهرتي ياسمين لشجرة لا توجد لها شقيقة في جل الكلية أحرص على الحضور باكراً قبل أن يقطفهما أحد سواي كي أحظى بعطرهما ولتشعلا في جوفي قبس أمل.
 

وبين عطر الياسمين ورائحة الدم لا أزال أنتظر بعد أسابيع قليلة حفل تخرجي لأدلي بقسم الطبيب وأعلن للعالم كافة أني أصبحت طبيباً.
 

نعم أدرك أنني فقط وصلت لأصغر قمة من مجموعة سلاسل قمم الطب وتخصصاته ولكن كل ذلك العناء أزيحه جانباً وأضع النجاح نصب عيني وأمضي قدماً حين أتذكر قوله تعالى "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا".

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان